يزور إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، مصر للمرة الأولى وهو على رأس هذا المنصب، يرافقه وفد رفيع من الحركة يضم رئيسها فى غزة يحيى السنوار وآخرين، غير أن هذه الزيارة تقلق الرئيس الفلسطينى أبومازن على نحو خاص، رغم أن زيارات متكررة سبقتها بحثت ملفات عديدة، أهمها توطيد العلاقة المتوترة بين الطرفين والتنسيق الأمنى لضبط الحدود وملف المصالحة مع حركة فتح وملفات أخرى، قلق الرئيس عباس ينبع من خشيته أن تخفف مصر الحصار عن قطاع غزة فيفشل فيما اتخذه من إجراءات تعسفية ضد غزة، ما يضعف موقفه السياسى، لذا تحرص حركة فتح على متابعة الزيارة بالتواصل مع القيادات المصرية وهو ما يظهر قلقاً مكتوماً تحاول سلطة رام الله إخفاءه، خاصة فى ضوء التفاهمات التى رعتها القاهرة بين دحلان وحماس وأغضبت الرئيس عباس غضباً شديداً، وبعيداً عن تلك المناكفات والسجالات التى لم تفض لأى اتفاق يٌخرج غزة من كبوتها، فقد أثبتت سياسات قطبى الصراع أنها لا تعنيهما بقدر ما تهمهما المصالح والسلطة، فكلاهما يدير الحكم بقبضة من حديد كدولة بوليسية تخنق الحريات وتمارس الديكتاتورية وتكمم الأفواه، غزة تحت وطأة الصراع تعيش يوماً بيوم، بالكاد تستطيع دفع فاتورة الاستمرار فى الحياة، حياة أشبه بالعدم بعد أن تمكن منها الضعف والعزلة والفقر والبطالة والأمراض، يدور رحى الصراع منذ نحو عشر سنوات بعد أن تمكنت حركة حماس من السيطرة عليها وإخضاعها لحكمها وانفصالها عما تبقى من فتات الجغرافيا الفلسطينية التى سمح بها الاحتلال الإسرائيلى، تتحايل على العزلة والحصار اللذين فتكا بها ورشحاها لتكون من أكثر الأماكن المنكوبة وفقاً لتقارير محلية ودولية أجمعت على أن غزة عام 2020 لن تكون صالحة للعيش، وذلك تشخيصاً للحال التى يحياها القطاع المحاصر، حيث لخصت التقارير مآسى مركبة ومتفاقمة تنذر بكوارث إنسانية تهدد بشكل جدى حياة مليونى إنسان يعيشون مكدسين فى بقعة مكتظة ذات كثافة هى الأعلى فى العالم، بينما فصول الانقسام والصراع والحصار مستمرة، ليحرم من أدنى مقومات الحياة الآدمية، فى مياه صالحة للشرب أو كهرباء أو صحة أو مساكن تصلح للإيواء بعد أن دمرت ثلاث حروب متتالية ما تبقى من معالم العمران.
المشاورات والمداولات بشأن إصلاح حالها لم تستطع مداواة جراحها طوال السنوات الماضية، جولات وصولات من المفاوضات لنزع فتيل التوتر والانقسام باءت جميعها بالفشل، وعوضاً عن الوصول إلى طريق مشترك يعيد الوحدة للجغرافيا ويرمم شقوق السياسة وندوب الخلافات، اتخذ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس طريقاً آخر للى ذراع حماس المسيطرة على مقدرات غزة وإجبارها على الرضوخ والتخلى عن سيطرتها على حكم القطاع، فسلك طريق الانتقام بالإجراءات العقابية الشهيرة التى أقحمت سكانها فى أتون الضياع وفرض المزيد من العزلة والفقر، ظناً منه أن ذلك سيعيد حماس لرشدها وهو ما لم يحدث، فقد قفزت حماس من المركب واتجهت إلى زورق النجاة الذى فتحه أمامها محمد دحلان القيادى المفصول من حركة فتح والعدو اللدود للرئيس أبومازن، ورسا على ميناء التفاهمات التى رعتها مصر وأقلقت سلطة رام الله كثيراً، لأنها تتجاوز شرعيتها وتتجاهل وجودها، فهى تقلل من مفعول مخططات أبومازن لتنفيذ شروطه كى يرفع العقاب عن غزة وأهلها، وإن نفت السلطة مراراً وتكراراً أن يكون هذا العقاب موجهاً لأهلهم فى غزة! وهو ما ينفيه الواقع المعاش فالمتضرر المباشر من إجراءات عباس العقابية وإحكام الحصار هم المواطنون وليس حماس، حتى لو كان أبومازن يأمل بإجراءاته تأليب الناس على حماس فقد أخفق فى تحقيق هذه الغاية أيضاً!.
اتجهت حماس نحو مصر وقدمت كل ما يبرهن حسن النوايا سعياً لتحسين العلاقات، وجولات وفودها المكثفة والمتتالية إلى مصر جاءت للتوضيح وتقديم ضمانات تنفى عنها صفة الإرهاب التى وصمت بها بقرار دولى أضعف موقفها أكثر وزاد من عزلتها، لكن لماذا يزور إسماعيل هنية القاهرة فى هذا التوقيت؟ وما الرسائل التى تحملها هذه الزيارة؟ هل المغزى إنقاذ غزة من حافة الانهيار، أم هناك أهداف أخرى منوطة بالزيارة؟
الإعلام الرسمى لحماس يسُوق أنها زيارة تنسيقية لاستكمال ما بدأ بشأن التفاهمات والبناء عليها وتطوير العلاقات ومناقشة المستجدات على القضية الفلسطينية والتطورات فى الملف الفلسطينى السياسى وبحث المصالحة الوطنية والعلاقات الفلسطينية، لكن يبدو أن الزيارة أمنية بامتياز وهو شأن يهم القيادة المصرية على نحو خاص لضبط حدودها الشمالية والشرقية، واكتسبت الزخم كون أن رئيس المكتب السياسى لحماس إسماعيل هنية جاء على رأس وفد رفيع المستوى للتباحث مع المسئولين المصريين للتأكيد على أن مصر بحكم الجغرافيا والتاريخ لا يمكن تجاهلها، فهى القادرة على التحكم بالمداخل السياسية الفلسطينية، كما أنها جاءت رداً على زيارة أبومازن لتركيا وإيصال رسالة بأن مصر هى من يرعى ملفات غزة بالتحديد، فضلاً عن بحث ملف المصالحة بين فتح وحماس فى ظل المتغيرات الدولية الناشئة فى ضوء سياسة ترامب فى الشرق الأوسط وسعيه للقضاء على الإسلام السياسى، وربما رغبة فى إعطاء فرصة لقيادة حماس الجديدة للتعرف على مواقفها السياسية وتوجهاتها وتحالفاتها لتحديد آلية التعامل معها مستقبلاً، لكن السؤال الأهم هل حمل هنية معه هموم غزة الحقيقية للبحث لها عن علاج جذرى وسط تلك الملفات التى قُتلت بحثاً؟! وهل يعود إلى غزة حاملاً سيف المعز وذهبه ليقطع أوصال الحصار واليأس، فيلمس المواطن أن ثمة تغييراً حقيقياً فى حياته المنكوبة بالأزمات بدأ يلوح فى الأفق، فلا تنقطع عنه الكهرباء ولا تغلق أمامه الحدود ولا يموت المريض لنقص العلاج ولا يهدد فى رزقه؟ الواقع يقول لا، فمصلحة المواطن آخر اهتمام كلا الطرفين، وكل ما يهمهما هو الحفاظ على السلطة والسيطرة والحكم.