قضية رأى عام فجرها رواد السوشيال ميديا عندما تداولوا صورة علم «المثليين» رفعها أحد الشباب فى حفلة أقيمت لفرقة «مشروع ليلى» اللبنانية يوم الجمعة الماضى فى مول شهير بالقاهرة، سرعان ما تلقفتها منصات برامج التوك شو وجعلت منها قضية رأى عام، سلطت عليها الأضواء وفضحت المسكوت عنه، فأفردت للقضية مساحات واسعة جعلت من الذين لا يعرفون عن الموضوع شيئاً مهتمين، وأثارت تساؤلاتهم وفضولهم وشغفهم بالمزيد من المعرفة، لم ينتبه من نصبوا أنفسهم قادة الرأى العام وقدوة المجتمع ونشر الفضيلة وشيوخ الفتاوى والتحريم أنهم ارتكبوا حماقة لا تقل توابعها عن رفع علم المثليين ذاته، فإثارة قضية بهذه الحساسية فى ظروف ملتهبة غير مهيأة ومجتمع ينهشه التناقض والضعف، استفزت البعض وأغضبت البعض الآخر لأنها قضية رأى عام تمس الأخلاق والسلوك والقيم المجتمعية التى ترفض الانحراف والرذيلة وما ينهى عنه ديننا الحنيف، فقاعة تسللت إلى جسد المجتمع المنهك بالأزمات، وبالذات بين جيل الشباب الذى يسهل اختراقه عندما يكون الموضوع عن الحرية اللامحدودة المستوردة من الغرب بلا قيود أو ضوابط، هذا الجيل الذى تتبلور أفكاره ومعتقداته من خلال عالم الشبكة العنكبوتية بشكل هائل، لا شىء يستطيع صد طموحه أو ضبط جموحه.
قضية «المثليين» كشفت عن الفجوة السحيقة الماثلة أمامنا بين الأجيال، ووضعتنا أمام ظاهرة خطيرة تتمثل بقناعات ومفهوم الشباب عن الأخلاق والدين والقيم والقواعد السلوكية، ليصدمنا الواقع بأنها بعيدة كل البعد عن ثوابتنا وقيمنا ومعتقداتنا التى تربينا ونشأنا عليها، فكل ما يتعلق بتفكيرهم يخضع لقانون النسبية لا شىء يقيّم على إطلاقه، لذا استقبل الشباب قضية المثليين التى أثارت الجدل بشكل حاد فى الأيام الأخيرة بالكثير من اللامبالاة والاستهانة فهى من منظورهم الفكرى «حرية شخصية»! ومن اعترض منهم على هذا السلوك واستهجنه إما منغلق على ذاته تخنقه قواعد دينية صارمة رسمها له أئمة ومشايخ يعتقد ويثق بها، أو غير مكترث تحت مظلة أنها ممارسات فى إطار «الحرية الشخصية»، هذه القضايا الشائكة الملتبسة باتت تهدد ثوابت أخلاقية أرساها الدين وقننتها العادات والقيم والتقاليد لكنها بدأت فى التلاشى والزوال، إن لم يكن بالإفصاح والمجاهرة فبعدم الاكتراث أو الرفض أو الاستنكار!. لم يعد يحكم هذا الجيل ضوابط أخلاقية بعينها أو قواعد يحذو حذوها ويختارها نهجاً وسلوكاً فيما بعد تمثل مبادئه وأفكاره وقناعاته، الأخلاق أصبحت مطاطة فى عالم صغير ودائرة مغلقة مليئة بالأفكار والمعتقدات والمعلومات المستوردة والدخيلة تترك للمتلقى هامشاً يأخذ منها ما يروق له ولا تفرض عليه قناعة بعينها، وبقدر ابتعاد هذا الجيل عن ثوابتنا وثقافتنا، بقدر انجذابه للممنوع لأنه أكثر إثارة وتعبيراً عن مكنون ذاته الرافضة للجمود والمعطلة لإعمال العقل، فكل ممنوع مرغوب.
لم تكن الصدمة فى أن أحد الشباب رفع علماً تعبيرياً للمثليين ليقول نحن هنا، لكن الصدمة الحقيقية فى تفكير هذا الجيل الناشئ وطريقة تعبيره عن نفسه وأفكاره، ولأننا فى مجتمع محافظ قوامه الكبت والقمع فإن وسائل التعبير بالضرورة أن تكون صادمة للمجتمع وهويته التى أصبحت ملتبسة بين ما تربى عليه وبين ما يريد أن يكتشفه، ومهما حاولنا غرس القيم والمبادئ والأخلاق التى تربينا عليها، ستظل هناك دائماً نقطة مظلمة تستفز الحوار لتحيله إلى جدل بيزنطى لا طائل منه، ربما لأن هذا الجيل يفتقد البوصلة والهدف لقضية حقيقية يدافع عنها ويمسك بتلابيب مبادئها وأفكارها فتكون مشروع حياة وأملاً ومستقبلاً!.
إن «قضية المثليين أو الشواذ» ليست جديدة فهى تقبع فى البؤرة المظلمة من المجتمع يُهمس بها فى جلسات خافتة ودوائر ضيقة مغلقة، لكن أن يُجاهر بها فى العلن، هنا لا بد من التوقف والتأمل للتغيرات المخيفة التى سكنت عقول الشباب ونالت من ثوابتهم الأخلاقية والعقائدية! من المسئول؟؟ السؤال الذى قُتل بحثاً!! هل هى الأسرة، أم المدرسة أم الجامعة، أم النظام الأشمل متمثلاً فى سياسات الدولة الثقافية والتربوية والتعليمية، أم أسلوب ونهج الحياة ككل؟! أكاد أجزم بأن الفجوة الفكرية والثورة الأخلاقية التى اكتسحت عقول الشباب تمكنت منهم ولا سبيل لتغييرها، لقد اصطدمت أنا شخصياً فى حوارات متعددة مع بعض شباب هذا الجيل بأفكارهم المنفتحة بلا حدود أو ضوابط لدرجة أذهلتنى وأفزعتنى، لأنها ببساطة اصطدمت وتعارضت مع مبادئى وقيمى وقناعاتى، ومهما كنت أحاول الإيضاح أو التحاور كنت أصطدم بحجم العناد والقناعة والثبات على تلك الأفكار الدخيلة علينا، فما بالنا ونحن بصدد رفضها واجتثاثها من المجتمع، لكن ليس بالعنف والمصادرة والاعتقال، فهذا الأسلوب الترهيبى سيزيد من حجم المشكلة ويجعلنا لقمة سائغة لهجوم منظمات حقوق الإنسان الدولية والمجتمع المدنى للنيل منا بزعم قمع الحريات والتقييد على الأقليات، لا بد أن نتأمل الظاهرة ونفكر فى علاجها بحكمة، الشباب قنبلة موقوتة لا يمكن التعامل معها بالعنف أو التهور لأنها حينها ستنفجر فى وجه الجميع.