هل يمكن أن يتخلى الناقد عن موضوعيته دون أن يفقد احترامه لنفسه واحترام القارئ له؟!.. فكرت فى هذا الأمر كثيراً بعد مشاهدتى لفيلم «الكنز» إخراج «شريف عرفة»، وبطولة «محمد سعد»، و«محمد رمضان»، و«هند صبرى»، و«محيى إسماعيل»، و«روبى»، و«أحمد رزق».. عن سيناريو وحوار: «عبدالرحيم كمال».. بعد تردد طويل عن تناوله بالنقد والتحليل.. لا شك أن الموضوعية تستلزم تحليل البناء الدرامى، الذى يحتوى على رسم الشخصيات بأبعادها الاجتماعية والنفسية.. وإبراز قدرة المؤلف على تجسيد هذه الأبعاد لخلق الأحداث المناسبة التى تتصاعد تدريجياً وتدفع الدراما إلى الأمام.. فينشأ الصراع الذى يحتوى على المغزى العام للفيلم.. والموضوعية أيضاً تستلزم إلقاء الضوء على العلاقة بين الشكل والمضمون.. ومدى اتساقهما وانسجامهما فى سرد سينمائى يحقق المتعة البصرية والفكرية.. ومن ثم، فعلى الناقد أن يلقى الضوء على السلبيات والإيجابيات.. ويحلل عناصر الفيلم الأخرى من إيقاع ومونتاج وتصوير وإضاءة وموسيقى تصويرية.. وديكور.. وصولاً إلى أداء الممثلين..
لكن بنظرة سريعة إلى حال السينما المصرية الآن.. وما حدث لها بعد ثورتى «25 يناير»، و«30 يونيو».. نجد أنها غرقت فى أفلام الابتذال الرخيصة، حيث التوليفة التجارية من رقص خليع وإيحاءات جنسية فظة.. وغناء سوقى.. وعلاقات محرمة وميلودراما فجة تلتقط من تراث ردىء لأفلام قديمة مستهلكة مشاهد تمزجها بأخرى لتقدم خليطاً منفراً من أحداث مفتعلة تخاصم العقل والمنطق.. وتجرى فى عشوائيات ليس الهدف من ظهورها كبيئة لهذه الأحداث طرح قضية سياسية أو اجتماعية متصلة بالعدالة الاجتماعية المفتقدة.. ولكن لمغازلة شريحة اجتماعية تمثل أكثر من خمسة ملايين يقطنون هذه المناطق.. يحققون قانونهم الخاص بالبلطجة والانتقام الفردى واستخدام السنج والسيوف والعنف بمعزل عن حكومة غائبة وعدالة ضائعة..
والشباب من كُتاب ومخرجى السينما الجدد وأبطالهم وبطلاتهم الذين غزوا السينما فى السنوات الأخيرة وسيطروا على مقدراتها وعلى جمهورها.. يتشدقون بالواقعية، ولكنها واقعية زائفة، فهى لا ترصد أو تعالج حقاً مشاكل ذلك الواقع.. وهموم الوطن.. والمواطن.. وقضاياه الملحة فى تلك المرحلة الخطيرة والدقيقة من عمر الأمة.. لكنها تغرق فى رصد معاناة شخصيات منهارة لا يتعاطف معها أحد.. إن المفزع حقاً ألا ترى عيون هؤلاء الذين يرتدون أثواب الإبداع المتهرئة إلا مظاهر البذاءة والفحش والانحراف.. فتنقل الشارع القبيح إلى الشاشة دون أى سعى حقيقى إلى التأمل والتحليل وإبراز المغزى وطرح رؤية تضع يدها على أوجه الخلل الذى يكشف العورات ويستخلص العبرة ويلمس الجوهر، فيصبح من المعتاد أن تكون ثقافة الفجور والانحلال والإدمان والعنف والجريمة وفظاظة السباب هى الثقافة السائدة.. أى أن العملية التبادلية تلك يصبح عنوانها: من الشارع إلى الشاشة.. ومن الشاشة إلى الشارع..
لذلك فإن فيلم «الكنز» -بالقياس- يعتبر فيلماً استثنائياً فى هذه الفترة المظلمة من تاريخ السينما المصرية.. وعند المقارنة بما يعرض الآن فى دور العرض تحت مسمى «أفلام العيد» لا تجوز المقارنة.. فتجاور الأغلبية الغثة مع «الاستثناء» الجيد.. يصبح تجاوزاً فاضحاً وكاشفاً بشكل يدعو إلى الرثاء على المستوى المتدهور الذى وصلت إليه حال السينما فى بلادنا.. ولعل ذلك يذكرنى بمرة دعانى صديق ممثل أن أشاهد عرضاً مسرحياً يشترك فيه.. وحينما لمح على ملامح وجهى تعبيراً بالتردد.. هتف ضاحكاً ساخراً، ليشجعنى على قبول الدعوة: «والله دى مسرحية بجد.. فيها فصل أول وفصل ثانى وفصل ثالث».. إنه يقصد وجود «الحد الأدنى» للعرض المسرحى..
فهل المقارنة التى نقصدها بين أفلام العيد وبين فيلم الكنز.. هى مقارنة بين وجود الحد الأدنى فى «الكنز» وعدم وجوده فى الأفلام الأخرى..
يمكننا القول بشكل قاطع إنها مقارنة بين الفيلم الحقيقى والـ«لا أفلام».. ومن هنا يستحق أن نتسامح معه فى التقييم النقدى الصارم.. ونحنو عليه من الهجوم الضارى، فلا نغلّب السلبيات على الإيجابيات حتى تبتلعها فى قسوة.. يقوم بناء الفيلم على استلهام التاريخ من خلال ثلاث حكايات من ثلاثة أزمنة مختلفة هى: عصر الفراعنة، وعصر الاحتلال العثمانى، وآخر مراحل العصر الملكى.
والمراحل الثلاث تشى بعودة «شريف عرفة» إلى ضالته المنشودة فى رحلته السينمائية الشيقة وافتتانه باعتبار الفيلم يمثل مغامرة.. بدأت بفيلم «الأقزام مقبلون»، واستمرت فى «يا مهلبية يا» و«سمع هس».. ومجموعة الأفلام التى ألفها «وحيد حامد»، وقام ببطولتها «عادل إمام» التى تنتمى إلى «التراجيكوميدى»، أو (الكوميديا السوداء) مثل «الإرهاب والكباب» و«المنسى» و«طيور الظلام» و«اللعب مع الكبار»، و«النوم فى العسل».
ومن خلال مجموعة مغامراته السينمائية ينتقل بين أشكال درامية مختلفة.. ويدعم هذا التعدد بإبداعات الصورة المتمثلة فى تكوين الكادر الجمالى.. وحركة الكاميرا المناسبة فى رشاقة.. واستخدام زوايا تصوير موحية ومبتكرة.. وديكورات أبدع فى تجسيدها مهندس الديكور «أنسى أبوسيف» وخاصة المعابد الفرعونية فى تكوينات بديعة كأنها لوحات تشكيلية.. كما أن موسيقى «هشام نزيه» وكلمات «أمير طعيمة» وصوتى «نسمة محجوب» و«إيهاب يونس» تعتبر من العناصر البارزة التى ميزت هذا الفيلم..
كنت أهفو إلى استكمال المغامرة السينمائية ودعمها بطرح يبرز العلاقة بين الحكايات ومدلولاتها الفكرية والتاريخية وحتى العاطفية.. وهو ما يدفعنى إلى الدهشة والتساؤل.. لماذا ما دمت لديك الجرأة والخيال لتبحر فى نسج الحكايات.. لم تسع إلى الغوص فى أعماقها لتستخلص المغزى الذى يثير العقل ويحرك الوجدان ويحرص على التأمل، بل هى مجرد إطار يخلو من الأحداث الدرامية المؤثرة.. مثلاً.. إن انتزاع «حتشبسوت» للسلطة والنفوذ.. وجلوسها على عرش البلاد.. ثم مفارقة أن تخسر حب المهندس «ستموت» (هانى عادل) كان من الأولى أن تركز تركيزاً مؤثراً على صدامها مع الكهنة وانتصارها لفصل الخطاب السياسى عن الخطاب الدينى، ليعكس ذلك أول محاولة تاريخية إصلاحية فى التاريخ.. ويصبح للإسقاط والرمز فى هذه الحالة أهمية ساطعة.
لكن جوهر الصراع فى الحكاية لم يتجسد ولم تكتمل أبعاده ومن ثم افتقد مبرر وجوده ووجود الشخصية التى جسدتها «هند صبرى» تجسيداً غير مقنع..
كما أن الاعتماد على وجود جزء ثانٍ من العمل تكتمل فيه الرؤية وتتضح فيه المسارات المختلفة للخطوط الدرامية.. ويتبلور فيه الغرض من النص.. ومدى أهمية اختيار تلك العصور المختلفة والربط الفكرى والفنى بينها وعلاقتها بالواقع المعاصر -وهو ما لم نلمسه فى الجزء الأول- هو اعتماد خاطئ، لأن ذلك يعنى التقصير فى البناء الدرامى للجزء الأول، فيظهر بذلك النص السينمائى مفككاً، والرؤية غائمة.