«مصر دولة كبيرة على محور التاريخ، وكذا على محور الجغرافيا».. هذه حقيقة يقر بها غير المصريين قبل الأبناء الذين أنبتهم تراب هذا البلد، حقيقة تعلمتها الأجيال المتعاقبة فى مصر فى المدارس، وبما تسمعه يتردد على لسان الآباء والأجداد حول أصالة وعراقة هذا الشعب، وببعض المواد التى تنير معرفة المتلقى بين الحين والآخر داخل وسائل الإعلام. مصر دولة عظيمة، والعظيم هو أقل الناس حاجة إلى الحديث عن مظاهر عظمته، فى الحالة العادية لا يوجد ما يضطر العظيم إلى ذلك، وعندما يفعل فاعلم أنه مرتبك الأوضاع، أو ليس على ما يرام.
أحاديث الحب الصارخ والزاعق عن محبة هذا البلد تؤشر إلى حالة مرضية لا بد من علاجها. فمن يحب هذا البلد محبة حقيقية يليق به العطاء فى صمت. بإمكانك أن تتأمل بعض الأحاديث التى تتزاحم على موقع يوتيوب، وظهرت بكثافة على قنوات التليفزيون، خصوصاً القنوات التى تهوى تذكيرنا بما كان، مثل قناة «ماسبيرو زمان». استمع إلى الحوارات التليفزيونية التى أجريت مع صائدى الدبابات وعلى رأسهم «عبدالعاطى»، وسوف تكتشف كيف أعطى هؤلاء مصر العظيمة فى صمت، فكر قليلاً وستجد أن هناك من أعطى أكثر منهم، عندما ضحى بحياته وقدم دمه راضياً مرضياً من أجل تحرير أرض البلد الذى يؤمن بعظمته. لن أدعوك إلى مقارنة هؤلاء ببعض النماذج الزاعقة التى ترتع فى وسائل الإعلام اليوم وتقدم نفسها كنماذج رفيعة للوطنية، وتمنح نفسها حق توزيع صكوك الوطنية على الآخرين. لن أدعوك إلى المقارنة لأنه لا وجه لها. فكيف نساوى بين أجساد لم تتعود إلا على الخشن من الثياب والطعام، وتتعيش بقروش قليلة، وكأنها جاءت الحياة لتضحى، وبين أجساد تعيش حياة مخملية ناعمة، وتقبض ثمن «الوطنية الزاعقة» ملايين مملينة كل شهر؟
إننى أستطيع أن أتفهم أن الدول العظيمة، مثل مصر، قد تواجه مشكلات أو تعانى تعثرات، وهو أمر طبيعى فى حياة الأمم، لكن هذا لا يدعوها بحال إلى الدفاع الرخيص عن عظمتها، بل هى فى الأصل ليست بحاجة إلى ذلك. فمهما كانت مشكلاتنا الاقتصادية أو المعيشية فنحن أبناء حضارة ضاربة بجذورها فى التاريخ، ولم تزل تقدم للعالم حتى الآن، بما تملكه من تاريخ وفكر وفن وبقايا علم، وهى أشياء لا يمكن أن تشتريها أىّ دولة فى العالم، أياً كانت درجة ثرائها. لسنا بحاجة إلى أن ننجر إلى معارك مع صغار، كل كفاءتهم فى الحياة ترتبط بثروات هبطت عليهم من السماء. يجب أن نعلم الفارق بيننا وبين هؤلاء، أى صغير من هؤلاء الصغار عندما يقع لن تقوم له «قومة». مصر مختلفة فكم وقعت وقامت، وكم تعثرت ونهضت، إنها تقع لتقوم، وتقوم لتقف. نحن أسرع دول العالم قدرة على الشفاء والتعافى وإصلاح أحوالنا، اقرأوا التاريخ وستتأكدون.
ما يفعله هؤلاء «الأراجوزات» يخصم منا ولا يضيف إلينا شيئاً، وأرجو ألا ينسيهم تغفيلهم أن هذا الشعب «بيفهمها وهى طايرة»، ويعلم أن هؤلاء مجرد تجار، يؤجرون حناجرهم بنظام الشقق المفروشة. وهم أول من سيهرول نحو السفينة إذا وُضعوا فى اختبار وطنية حقيقى، فى حين سيبقى هذا الشعب وحده يمجد «من قال لا للسفينة وأحب الوطن».