أحبابى وأصدقائى، أحدّثكم اليوم عن المنفى، الذى أصبح هو المصطلح الأشهر فى عالمنا الآن وبعد أن كان معروفاً للسياسيين والأدباء والمقهورين سياسياً فقط اختلف الأمر كثيراً حتى أصبح جزءاً من حياة الصغار ورغم قسوة عنوان هذا المقال فإننى سأقص عليكم الكثير من الطرائف، فالحقيقة أن أجمل ما يُكتب يكون عن تجارب حقيقية أو عن تجربة خاصة، وفى البداية أؤكد أن هناك مزايا ومتعاً لما اعتدنا أن نقول عنه المنفى، فالعلاقات الثنائية تنمو وتزدهر وتنتعش فيه، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الإبداعات والتجليات أيضاً تنمو وتخرج للنور، لأن الإنسان عندما ينفرد بذاته ويترك كل شىء وراءه راحلاً إلى المجهول مع الطرف الآخر أو وحده تتغير الحياة تماماً، وتتغير النفس البشرية، ولو إلى حين، وتُصاب ملكات الشخص بفيروس حميد لا يهاجم خلاياها، بل يجمعها ويقويها ويحصّنها ويصنع منها حائطاً قوياً يمكن أن نصفه تجاوزاً بأنه مضاد للصواريخ الباليستية حتى نتماشى مع ونواكب التطورات التقنية والعلمية فى مجال التسليح.
والمنفى أنواع وأرقام وإحصائيات، وفقاً للتقرير السنوى الذى تُصدّره المفوضية العليا للاجئين، الذى نُشر مؤخراً، حيث أكد أن عدد النازحين واللاجئين الفارين من النزاعات وعمليات الاضطهاد المتعدّدة فى جميع أنحاء العالم ضرب رقماً قياسياً فى عام ٢٠١٥ هو ٦٥٫٣ مليون فرد منهم ٢١٫٣ لاجئ تركوا بلادهم و٤٠٫٨ نازح تركوا منازلهم وبقوا فى بلادهم و٣٫٢ مليون طلبوا اللجوء فى دول صناعية كبرى. ويتضمن التقرير أن هناك شخصاً من بين كل ١١٣ على مستوى العالم، إما لاجئ أو نازح أو طالب لجوء وأكثر من نصفهم يكون من الأطفال واعتبر التقرير هذه الأرقام عالية جداً مقارنة بعام ٢٠١٤، حيث وصل العدد فيها إلى ٥٩٫٥ مليون و٣٧٫٥ مليون قبل عقد. وفى عام ٢٠١٥ كانت المرة الأولى التى تجاوز العدد كما ذكر التقرير عتبة الـ٦٠ مليوناً، أى ما يعادل عدد سكان بريطانيا. وتُشكل ثلاثة بلاد نصف عدد اللاجئين فى العالم، وهى سوريا وأفغانستان والصومال وفى ما يتعلق بالنازحين تتصدّر كولومبيا وسوريا والعراق عدد النازحين، كما اعتبر التقرير تركيا أكثر البلاد استضافة لهؤلاء.
والمنفى هو اسم جمعه منافٍ، بكسر الفاء، وهو مكان إقامة المطرود من بلاده أو المُبعدون سياسياً، ولعل أشهرهم فى عالمنا العربى، ولنكون أكثر دقة يمكن أن نقول فى التاريخ المصرى الزعيم أحمد عرابى، الذى لعب دوراً مهماً فى محاربة الاحتلال الإنجليزى لمصر واحتجز هو وكبار قادته، وفى مقدمتهم طلبة باشا فى ما كان يطلق عليه ثكنات العباسية وحوكم عام ١٨٨٢ وقضت المحكمة بإعدامه، ثم خفّف الحكم للنفى لجزيرة سيلان (سيريلانكا) حالياً ليتركوا أرض مصر التى عشقوها مستقلين السفينة التى حملت أشهر سياسى مصرى وبرفقته عبدالله النديم ومحمود سامى البارودى، أما الزعيم سعد زغلول فقد نُفى مرتين، الأولى إلى جزيرة مالطة عام ١٩١٩، والثانية إلى جزيرة سيشل فى المحيط الهندى عام ١٩٢١، حيث عاش ورفاقه ما يقرب من ٧ سنوات، بعيداً عن مصر.
ويقول علماء النفس عن المهاجر أو المبعد عن الوطن إن شخصيته تتكون بالفعل فى وطنه الأم وتتلون روحه بأطياف الوطن من دين ولغة وعادات وطرق معيشة بل ومناخ وتضاريس وعندما يُبعد عن كل هذا فإنه سرعان ما يتحول إلى شجرة تُزرع فى تربة غير تربتها الأولى وحينئذ يواجه عادات جديدة وفلسفة فى الحياة مغايرة تماماً لما اعتاد عليه ويجد نفسه مضطراً إلى هضم كل هذا التغيير وتقبله لينجح على الأقل فى حياته المادية، لكن ما يحدث بالفعل أنه فى غياهب اللاوعى يكمن الحنين إلى الوطن والأم وإلى ذكريات العيد ورائحة طعام الجدة وبيتها، فيُصاب الإنسان المبعد عن كل هذا بالانفصام كل حسب استعداده النفسى وطاقاته الروحية.
ومن الطريف أنه عندما نتحدث عن المنفى والإبعاد والحرمان والحنين إلى الأوطان نجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا من المبدعين والشعراء والكتاب وأصحاب الفكر، وذلك بسبب مواقفهم من الأنظمة الحاكمة ومن قهر الشعوب والقضاء على الأحلام والآمال، ولعل أمير الشعراء أحمد شوقى كان من أشهرهم فى مصر، حيث نفى إلى إسبانيا عام ١٩١٥ ليعود عام ١٩٢٠، لكنه استغل منفاه فى الاطلاع على الأدب والحضارة الإسبانية وسافر إلى فرنسا وظل قلبه متعلقاً بالثقافة العربية وبالشعراء العرب كما تأثر بالشعراء الفرنسيين وبالأخص (راسينا وموليير) وفى عام ١٩٢٧ بايع الشعراء العرب شوقى أميراً لهم. وقد اشتهر بتأثره بسنوات المنفى التى انعكست على أعماله، خصوصاً مسرحياته الشعرية التى برع فيها، وأهمها (مصرع كليوباترا وقمبيز ومجنون ليلى وعلى بك الكبير). ومن هؤلاء أيضاً شاعر النيل حافظ إبراهيم الذى قال عن المنفى والوطن أصدق العبارات (كم من منزل فى الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل)، وبطبيعة الحال نزح عدد كبير من شعراء وأدباء الدول العربية بسبب الأنظمة السياسية الجائرة، ورغم بعدهم عن الأوطان فإن كلماتهم كانت أصدق تعبير عن قسوة المنفى والحنين الجارف الذى قال عنه أحدهم (إن معاناة البعيد عن أرضه وأحبته تجعل مأساته تتضخّم وتتشظى روحه وتدخل أشلاؤها فى ما ينتجه من شعر ونثر فكلماته هى الدم والدمع الذى يذرفه فى غربته). وفى بحثى عن المبدعين الغرباء وجدت أنه من أجمل ما كتب كلمات الشاعر محمود درويش الذى لخص معاناته فى كلمتين (وطنى حقيبتى)، بينما قال نزار قبانى (مواطنون دونما وطن مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن مسافرون دون أوراق وموتى دونما كفن). والغريب أن يتضمّن سجل المنفيين والمبعدين علماء وعباقرة وأطفالاً، فنجد (ألبرت أينشتاين) العالم الذى حصل على جائزة نوبل فى الفيزياء أحدهم، حيث هرب من اضطهاد النازيين إلى سويسرا والطبيب النفسى الشهير (سيجمون فرويد) الذى فرت عائلته إلى إنجلترا عام ١٩٣٨.
وفى الحقيقة، أن عالمنا الذى تحركه سياسات قادته وأطماعهم وأهواؤهم الشخصية لم يترك الصغار فى حضن الوطن، فكانت قضية الطفل المصرى ذى الـ١٣ عاماً (أحمد فؤاد يوسف)، الذى هرب على مركب فى هجرة غير شرعية إلى إيطاليا، بحثاً عن علاج لشقيقه الأصغر بعد أن وجد العجز من والده والشابة السورية (يسرى ماردينى) السباحة العالمية التى استطاعت أن تنقذ ١٨ سورياً من الغرق عندما شاركتهم رحلة الهروب من جحيم القتال بعد أن كان من المقرر لها أن تشارك فى دورة الألعاب الأولمبية عام ٢٠٢٠، لكن الدمار الذى أصاب وطنها غيّر أقدارها، وفى رحلة الهروب تعرّض القارب الذى استقلته مع مجموعة أخرى للغرق، فقامت بإنقاذهم ومنحهم الحياة، لكن للأسف فى المنفى.