فى فيلم «محاكمة على بابا» المأخوذ عن قصة للساخر الكبير «أحمد رجب»، وكتبت له السيناريو والحوار وأخرجه إبراهيم الشقنقيرى، يعالج موضوعه مشكلة أسرة فيها الزوج والزوجة منفصلان ولهما ثلاثة أولاد ذكور ترعاهم الأم التى تستنجد بالأب بين الحين والآخر لتواجهه بمشاكلهم وتطلب منه مساعدتها فى حلها.. وتتركز مشكلة الابن الأكبر الطالب بالمرحلة الثانوية فى رفضه استذكار وحفظ قصائد النصوص للشعراء «المتنبى والبحترى».. و«أبوتمام» لرفضه لهم على المستوى الأخلاقى لأنهم يتملقون الحاكم فى أشعارهم إذا ما أجزل لهم العطاء، ويهجونه إذا كف يده عنهم، يحاول الأب إقناعه بإغفال نقائصهم الشخصية ودراسة مواطن الجمال فى أشعارهم لكن الابن يؤكد له أن الأمرين غير منفصلين، فأى جمال ذلك الذى يصدر عن شخص انتهازى مبتز.. وعبثاً يحاول الأب عند مواجهة مدرس اللغة العربية ثم رئيس الإدارة التعليمية أن يساعداه فى حل تلك المعضلة بل إنهما يزجرانه ساخرين منه ومن ابنه ذلك المراهق محدود العلم، من وجهة نظرهما، الذى يتجاسر وينتقد هؤلاء الشعراء الفحول.. ويؤكدان له أن عليه أن يذاكر تلك النصوص الشعرية وإلا سيتم رسوبه فى الامتحان..
أما الابن الأصغر فقد واجه معلمته بالحضانة برفضه أن يكون «على بابا» تلك الشخصية التراثية -كما وضحت لهم المعلمة- رجلاً يتمتع بالطيبة والأمانة والعدل، حيث استطاع أن يصل إلى المغارة التى يخبئ فيها اللصوص ما سرقوه من مجوهرات، بل إن الطفل يرى أن «على بابا» لص أثيم هو الآخر.. لأنه استولى فى النهاية على ما سرقه اللصوص ولم يسلمها إلى قسم البوليس، بل نعم بها هو وخادمته أو عشيقته «مرجانة» ويصر على موقفه فتطرده المعلمة طالبة منه ألا يعود إلى الحضانة إلا ومعه ولى أمره..
يذهب الأب إلى الحضانة مصطحباً طفله ويتهم المعلمة بضيق الأفق لإصرارها على اعتبار «على بابا» شخصية فاضلة.. تعتبر قدوة ورمزاً أخلاقياً عظيماً ينبغى أن يقتدى به الأطفال.. وتحتد عليه فى غضب جامح صائحة أنها هى التى تعلم الأطفال وليس العكس.. وعليه أن يبحث لابنه عن حضانة أخرى يلحقه بها..
تخشى الأم أن يتحول ابنها إلى شخصية سيكوباتية بسبب هذا الموقف.. وتتفق مع الأب أن يصحبه إلى قسم البوليس بعد الاتفاق مع الضابط على ادعاء الموافقة أنه سيقوم بالقبض على «على بابا» وحبسه بتهمة سرقة المجوهرات فى قسم البوليس، والأب يطلب من الضابط أنه جاء لتحرير محضر ضد «على بابا».. الضابط فى نفاد صبر لا ينتظر حتى يفهم حقيقة الموقف ويتصور أن الأب مجنون يهذى ويأمر بحجزه تمهيداً لتحويله إلى مستشفى الأمراض العقلية..
وفى مشهد أخير.. والشرطى يقتاد الأب إلى محبسه يصرخ منهاراً ذاهلاً محتجاً: أنا مش مجنون.. حاكموا «على بابا».. «على بابا» هو المسئول..
إنها «المسلَّمات اللعينة».. والمعتقدات الثابتة.. والأفكار الراسخة منذ أزمنة لا تقبل المغاير والمختلف.. وتقدس السائد والمألوف.. وتحمى الأصولية المتحجرة.. وتحتفى بالأوراق الصفراء والموروثات العتيقة التى تعادى الحرية والتطور.. وتفزع من الإباحة وتسعى لاعتقال العقل الباحث عن الحقيقة باحتكار كتابة التاريخ فلا يأتيهم الباطل أبداً على الرغم أن القاعدة الفقهية تؤكد أن الأصل فى الأشياء الإباحة.. والتنوع والتعدد واحترام الرأى الآخر..
تذكرت فيلم «على بابا» وأنا أتابع الزوبعة الأخيرة التى أثارها الدكتور «عمرو حمروش» أمين سر لجنة الشئون الدينية والأوقاف و(59) نائباً آخرين بمجلس النواب.. بتقديم مشروع قانون لتجريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية.. وأحال الدكتور «على عبدالعال» رئيس مجلس النواب المشروع إلى لجنتى الشئون الدستورية والتشريعية والإعلام والثقافة والآثار لمناقشة وإصدار القانون الذى يعاقب كل من يهين أو يزدرى رمزاً تاريخياً..
وتبدو تلك الملهاة فى تفاصيلها العبثية وكأنها حيكت كرد فعل لما صرح به المفكر «يوسف زيدان» من آراء سلبية متصلة بشخصيتى «صلاح الدين الأيوبى» و«أحمد عرابى»، تلك الآراء التى يمكن -فى ظل مناخ صحى وحضارى فى دولة مدنية- أن يتم التعامل معها باعتبارها قراءة مختلفة ووجهة نظر تحمل تصورات فكرية وسياسية وتاريخية مناقضة للسائد والمتعارف عليه والمتداول.. والتى تهدف إلى إعادة البحث والتقييم للسيرة الذاتية لكليهما..
وفى هذا الإطار فإنه كان المتوقع -بل المعتاد- أن تقرع الحجة بالحجة.. وتواجه الوثيقة بالوثيقة.. والرأى بالرأى.. وبالمناسبة.. وفى إطار التأكيد على أهمية حرية الفكر والتعبير، فإن الدكتور مراد وهبة استشهد فى مقاله الأخير بجريدة الأهرام وعنوانه «ما الحياة» بكتاب صدر فى عام (1970) فى فرنسا لعالم فرنسى اسمه فرانسوا جاكوب، وهو حائز على جائزة نوبل.. الكتاب بعنوان «منطق الحياة» يعتبر د. مراد أن محتواه صادم لملاك «الحقيقة المطلقة» الذين لا يرون للحياة منطقاً يحكمها إلا حكمهم، فهو يقول إنه ليس أخطر علينا من ذلك الذى يعتقد أن لديه هاجساً واحداً وهو أن الحقيقة التى يملكها ترتقى إلى مستوى المطلق.. وهو بالتالى ينتهى إلى النتيجة التى تؤكد أن التعصب هو سبب كل الجرائم التى ارتكبت فى تاريخ البشرية.. وعلى العكس من ذلك مفهوم التطور الذى يتحكم فى حياة الفرد بحكم أنه محكوم بخطة متفاعلة مع العالم الطبيعى.. وبذلك تصبح الحياة عملية متواصلة لا تقتصر فقط على تذكر الماضى.. بل أيضاً رؤية المستقبل..
وهذا يعنى ببساطة أنه طالما أن الحياة فى تواصل والكون فى صيرورة فإن الفكر الإنسانى لا يتوقف عند مرحلة واحدة.. بل يبنى بطريقة ديناميكية عن طريق النظرية.. والنظرية المضادة والرأى.. والرأى الآخر.. الرؤية والرؤية المغايرة.. الفكرة والفكرة المناهضة.. التصور والتصور المخالف.. الهاجس والهاجس المضاد.. ومن التوجهات والأهداف تتقدم البشرية وتتطور ونصنع المستقبل..
ولكن فى ظل الردة الحضارية التى نعيش فى كنفها.. يتحول الرأى إلى قضية حسبة يسعى فيها صاحب الدعوى إلى إخراس صوت.. وكسر قلم.. وحبس مفكر من خلال هرم ينقلب.. وخلل يثبت أقدامه عن طريق توسيع رقعة مفهوم الرموز بحيث يصبح الظلاميون وأعداء الحرية والمفكرون هم الرموز المضيئة والقامات الرفيعة.. والقمم الباسقة والعباقرة الملهمون.. والمقدسون.. ويصبح التنويريون.. والمفكرون وأنصار العقول والفكر الحر زنادقة ومجدفين وخونة وعملاء ومختلين..
وحينما يخنق العقل.. ويوضع فى زنازين المصادرة والوصاية والقمع والاستبداد.. وتقتل العقلية النقدية.. وتسود «ثقافة الهكسوس».. لا يسعنا إلا أن نصرخ: حاكموا «على بابا»..