مشهد التصويت فى مجلس الأمن على مشروع القرار المصرى المضاد لقرار «ترامب» بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قدم دليلاً على حالة «العزلة» التى تعيشها أمريكا. فضد 14 صوتاً مؤيداً للمقترح المصرى، رفعت مندوبة الولايات المتحدة يدها اعتراضاً على القرار، وشنّفت آذاننا بحديث عن اليهود الذين امتلكوا القدس منذ آلاف السنين. الأنثى الأمريكية لا يهمها التاريخ قدر ما تهمها الجغرافيا، وحسابات الجغرافيا تقوم على منطق واحد، هو منطق القوة. إنها تريد أن تُكسب أمراً واقعاً -على مستوى الجغرافيا- نوعاً من الوجاهة التاريخية، لكن يبقى أن تلك الأنثى كانت تنعق بمفردها، وتؤكد مجدداً تصهين الولايات المتحدة الأمريكية، وانحيازها الكامل للصهاينة.
تأكدت عزلة الولايات المتحدة بعد قرار تأجيل زيارة مايك بنس، نائب «ترامب»، إلى كل من «القاهرة وتل أبيب»، ليتضح لك ما كتبته بالأمس من أن هذه الزيارة لم يعد لها قيمة ولا أثر، بعد رفض السلطة الفلسطينية استقبال «بنس»، كواحد من أكبر المتصهينين داخل الإدارة الأمريكية، لم يعد للزيارة قيمة ولا أثر أيضاً بعد الرفض الشعبى الواسع لمجىء المتصهين «بنس» إلى مصر، واكتشاف الجميع عدم جدوى وجود «أمريكا المتصهينة» كراعٍ للسلام. العزلة الأمريكية داخل مجلس الأمن، وما أعقبها من تأجيل زيارة «بنس» إلى مصر تُدلل لك على أن رسالة الشارع الفلسطينى، وكذا الشارع العربى، وصلت إلى الجميع. وليس بمقدور إدارة سياسية أن تتصرّف بعيداً عن صوت الشارع عندما يعلو.
دعنى أكرر لك ما سبق وذكرته من أن «ترامب» و«نتنياهو» وغيرهما ممن يحلمون بإملاء صفقة القرن على العرب والفلسطينيين ليسوا آلهة على الأرض حتى يقولوا فيُطاعوا. وتقديرى أن هذه الحقيقة سوف تتأكد أكثر وأكثر خلال الأيام المقبلة. فليس ثمة من معنى لتحلل السلطة الفلسطينية من اتفاق أوسلو، سواء اختيار مسار المقاومة فى مواجهة من يظنون أن بمقدورهم فرض إرادتهم الإلهية على الشعوب. لقد بدأ الشعب الفلسطينى رحلة المقاومة السلمية فى شوارع القدس وغزة والضفة، فتعامل معهم جيش الاحتلال بالرصاص الحى، لم يرحم المحتل المغتصب للأرض والتاريخ إعاقة الفلسطينى إبراهيم أبوالثريا الذى قاوم قرار «ترامب» بنصف جسد، فأطلقوا النار عليه ليسقط شهيداً وشاهداً على أن الشعوب قادرة على تحدى من يعتبرون أنفسهم آلهة على الأرض.
الإعلام الإسرائيلى يتحدث الآن عن اختفاء بعض القادة العسكريين بغزة من شاشات الإعلام، ويتحسّبون لرد فعل من نوع خاص، فى وجه الرصاص الحى الذى تستخدمه إسرائيل فى مواجهة المتظاهرين السلميين الذين خرجوا معلنين رفضهم قرار «ترامب» ومدافعين عن عروبة القدس، ما يعنى من جديد أن الرسائل تتدفّق إلى تل أبيب، كما تتدفّق إلى واشنطن، معلنة أن الشعوب هى التى تقف فى المواجهة هذه المرة. الولايات المتحدة وإسرائيل عولتا كثيراً على القادة والحكام، وظنت أنها فى مأمن من حصار الشعوب. تقديرى أن هذا التعويل كان وارداً قبل قرار «ترامب» وقبل الأحاديث المتناثرة عن «صفقة القرن»، لكن الأمر اختلف. فى نظرى أن «ترامب» منح الشعوب العربية هدية كبرى بقراره الأحمق، حين جعلها تتنبّه وتستفيق من سحابات الوهم التى ظللت حياتها خلال السنوات الأخيرة.