كمثل الغول والعنقاء والخل الوفى، يزداد يقينى يوماً بعد يوم أن ذلك الفن فى طريقه إلى الانقراض.. وإن كنت أيضاً يزداد يقينى أن ذلك لن يترك أثراً يذكر اللهم إلا شيوعاً فى القبح أكثر انتشاراً، وتقلصاً فى الجمال أوسع نطاقاً، وفساداً فى الذوق أشمل تأثيراً، ورِدّة حضارية أعمق غوراً، وجهلاً فى المعارف والثقافة العامة أكثر شمولاً، وانهياراً فى الإدراك العقلى والشعور الوجدانى أشد هولاً، وتردياً فى الوعى الجماعى أجَلّ شأناً، وتداعياً فى الحس الإنسانى أفدح حالاً..
الفن الذى أقصده هو فن كتابة السيناريو للدراما التليفزيونية، ودليلى على ذلك مشهدان:
المشهد الأول: نهار/داخلى.. المكان: مدخل العمارة التى أقطن بها:
استوقفتنى زوجة بواب العمارة وطلبت منى برجاء حار أن أجد لها حلاً لمشكلتها المستعصية مع زوجها الذى لا يفعل شيئاً فى حياته سوى أن ينتزع منها أول كل شهر ثمرة شقائها فى العمل كخادمة فى شقق العمارة بالإضافة إلى تنظيفها سيارات المكان.. وتحمل أعباء تربية وتعليم وإطعام أطفالهما الخمسة.. إنه يضربها ويستولى على ما تكسبه وينفقه مع أصدقاء السوء بالمقهى ليلاً.. والتحرش بالشغالات نهاراً .. إنها نموذج مؤلم للمرأة المعيلة البائسة..
سألتها ما الذى يمكن أن أقوم به لمساعدتها؟!
قالت بثقة:
- خده معاك وعلمه لغاية ما يبقى «سيناريجى» (تقصد سيناريست) تضمه إلى «ورشتك» وأهى سبوبة حلوة ولقمة طرية والرزق يحب الخفية.. وطريقك زراعى يا معلم.. بدل ما هو قاعد صايع بيناكف فيّا.. وبياخد عرقى..
ضحكت مؤكداً لها أننى لا أعمل بنظام (الورش) تلك ولا أعترف بها..
دُهشت وقالت لى: ليه كده؟! أتاريك مش شاطر زى زمايلك اللى الواحد فيهم بيعمل له مسلسلين تلاتة فى السنة.. واديها مية تديك طراوة.. واقلب اليافطة واديله ماتريحوش.. وسقع وبيع يا عسل..
قلت لها بضيق وتوتر: هذا ليس من الفن فى شىء.. أن يشترك مجموعة من كتاب السيناريو فى كتابة وصياغة العمل الدرامى برئاسة أو تحت إشراف واحد منهم.. إن فى ذلك اعترافاً غريباً ومخزياً مفاده أن كتابة السيناريو ليست فناً مثل فن الشعر أو النحت أو الموسيقى.. أو الفن التشكيلى.. وإنما (صنعة) لا إبداع فيها أو خلق أو خيال خاص أو أسلوب مميز ينفرد به المبدع.. بل إنها حرفة يمكن تعلمها من خلال بعض التدريبات.. والميكانيكى يمكن أن يكمل عمله ميكانيكى آخر.. (والصبى) بمرور الأيام يصبح أسطى.. وقد عبر عن رأيه فى ذلك الكاتب الكبير وحيد حامد بأن نظام (الورش) تلك يشبه جلباب (المجذوب) الذى هو خليط من الرقع الملونة فى تنافر لا يحقق اتساقاً أو انسجاماً أو ترابطاً أو منطقاً.. بينما الفن هو الاتساق والانسجام.. والترابط والجمال والمنطق.. والمفروض أن كاتب السيناريو فنان موهوب مثقف ودارس أكاديمى.. يدرك أن كتابة السيناريو علم وفن وحرفة.. وهو إبداع فردى.. لأن الكاتب ليس مجرد (معد) أو (مترجم) أو (ناقل) لرؤية آخر.. إنما هو مبدع خلاق صاحب رؤية وخيال ووجهة نظر وأيديولوجية فكرية وخبرات اجتماعية.. وثقافة موسوعية.. وطريقة فريدة خاصة به فى رسم الشخصيات وتأليف الأحداث وإنشاء الصراع وصياغة أفكاره وأحلامه وتصوراته.. وله ذائقة خاصة فى التعبير والطرح وأسلوب مميز لا يشبه غيره فى السرد المرئى والحوار الدرامى الذى تختلف مفرداته ولغته وبلاغته وبيانه وبديعه عن فنان آخر..
المشهد الثانى: ليل/داخلى.. المكان: مكتب منتج فنى
«الفورمات.. الفورمات.. هل لديك فورمات؟!»..
الجملة السابقة قالها لى منتج مسلسلات وهو يعيد لى أوراق معالجة درامية لمسلسل..
قلت له بدهشة: يعنى إيه؟!
فاجأنى بضحكة ساخرة مجلجلة وهو يردد:
- إنتَ هتفضل قديم كده؟!.. معالجة إيه دى يا راجل؟!.. انسى وخد البنسة.. واديله فى الحق سجق.
- يعنى إيه برضه؟!
- يعنى بطلت حكاية المعالجة دى.. إحنا فى زمن «الفورمات».. يعنى هات من الآخر.. إنت تركى.. ولا هندى.. ولا مكسيكى؟!..
- لأ.. أنا مصرى..
- مينفعش.. شوف لك مسلسل من مسلسلات الدول المتقدمة فى الدراما دى.. وانقشه..
صحت مأخوذاً:
- المكسيك وتركيا والهند دول متقدمة درامياً؟!.. وأنقشه يعنى إيه؟! قصدك «أمَصّره»؟!
- تمصره.. تسرقه.. تنقله زى ما هو.. ماشى الحال.. غيّر لنا بس الأسامى واعمل لنا متين تلتميت حلقة.. وخلى إيدك فرطة.. وعلشان تلحق رمضان اعمل ورشة.. شوية صبيان صنايعية مطقطقين كده تبقى إنتَ الأسطى بتاعهم.. واحد يكتب المشاهد بتاعة البطل أو البطلة.. وثلاثة، كل (نفر) فيهم يمسك خط من الخطوط بتاعة الدراما والذى منه.. ورابع يكون عامل دماغ يكتب (لا مؤاخذة) الإفيهات اللى بالى بالك.. وانت تقفل الليلة.. قشطة؟!
هذا هو ما آل إليه حال الدراما التليفزيونية التى كانت رائدة المنطقة العربية والشرق الأوسط والتى أفرزت أجيالاً متعاقبة منذ الستينات من المؤلفين العظام والمخرجين الأفذاذ الذين قدموا عصارة فكرهم وخلاصة مواهبهم.. وأثروا وجدان وعقول ووعى ملايين المتلقين.. وعبروا عن أحلامهم وأشواقهم وهمومهم ومشاكل واقعهم المعيش، وقضايا مجتمعهم وتحولاته وصراع شخصيات تنتمى إلى شرائح اجتماعية مختلفة وتحمل أفكاراً متباينة، تصوغ حاضراً وتصنع مستقبلاً.. وتتفاعل فى أحداث غنية لها معنى ومغزى ومضمون..
***
قال الفيلسوف «هيرمن هيسة» والأسى يعتصره:
«لِمَ الشعراء فى الزمن الضنين؟!».
ونقول والحسرة تشملنا:
لِمَ «السيناريست» فى زمن «الورش» و«الفورمات»؟!