رفض رجال الأمن دخول أحد العاملين بالمنزل الرئاسى لأنه رفض تفتيش اللفافة التى يحملها معه. كانوا يعرفون الرجل جيداً ويعلمون أنه أحد العاملين فى خدمة الرئيس، ولكن التعليمات تقضى بتفتيش أى كائن يقترب من منزل الرئيس، وهذا الرجل يحمل لفافة يرفض السماح بتفتيشها. أصرّ الرجل على الدخول وأصرّ الحراس على منعه أو تفتيشه، وحين احتدم النقاش بين الطرفين قال الرجل إنه لن يسلم اللفافة إلا للرئيس شخصياً، وطلب منهم إبلاغ الرئيس بذلك وإلا عاد بما يحمل من حيث أتى دون تسليم الأمانة التى معه لصاحبها. أمام هذا الموقف الغريب اضطر رجال الحرس الجمهورى لإبلاغ السيد الرئيس، وخرج الرئيس من غرفته فى المنزل واتجه معهم إلى البوابة، وضحك وهو يسأل الموظف عن سبب رفضه التفتيش، وقال الرجل إن هذه اللفافة تحمل أمتعة شخصية لا يجوز لأحد الاطلاع عليها إلا صاحبها فقط، وضحك الرئيس مرة أخرى وطلب من الرجل فتح اللفافة والسماح بتفتيشها أمامه قبل أن يتسلمها، واستجاب الموظف لأوامر الرئيس وقام بتسليم ما يحمله للحرس الجمهورى، فإذا بهم يعثرون داخلها على عدد من القمصان القديمة الخاصة بالسيد رئيس الجمهورية، وقال لهم الرئيس إن هذه القمصان تخصه، وإنه أرسلها مع هذا الموظف لتغيير الياقة (قلب الياقة) لأنها بليت بينما القمصان نفسها ما زالت صالحة للاستخدام!!
هذا الرئيس الذى كان يقلب ياقة القميص بدلاً من شراء قمصان جديدة هو الرجل الذى أحبه الناس وصدقوه لأنه كان يعيش معهم ويستدين مثلهم ولا يجد نفسه إلا حين يحاول الصعود معهم وبهم إلى آفاق التقدم والرخاء والعدل الاجتماعى.
هذه القصة رواها منذ عدة سنوات شخص كان يعمل فى منزل عبدالناصر، وكان عبدالناصر قد رحل عن الدنيا ولم يعد يملك لهذا الرجل نفعاً ولا ضراً، وقال الرجل فى حديث لإحدى الصحف إنه رفض السماح بتفتيش اللفافة لأنه اعتبر ذلك إهانة للرئيس، حيث لا يجوز أن يعرف ضباط الحرس أن رئيس الجمهورية يقلب ياقة القميص، ولكن الرئيس قال لهم إن هذه القمصان صناعة مصرية وإن الياقة البالية لا تعنى أن القميص غير صالح للاستخدام.
لم يكن الناس فى عهد عبدالناصر يعرفون شيئاً عن الدستور، ولكنهم كانوا على دراية كاملة بفكر الدولة ورئيسها من خلال أغنيات عبدالحليم وأم كلثوم وعبدالوهاب وغيرهم، كان الفن آنذاك هو وسيلة الاتصال الأولى بين النظام والشعب، وكانت أعياد الثورة فى كل عام تقدم، من خلال الأغانى، برنامج العمل السياسى فى الشأنين الداخلى والخارجى، ويستكملها عبدالناصر فى الخطابات التى كان يلقيها فى شتى المناسبات وتتوقف الحياة فى مصر والعالم العربى وقت إذاعتها فى الراديو أو التليفزيون.
توحد الناس مع عبدالناصر مثلما يتوحد الجمهور مع البطل الدرامى، وكانت الحياة فى ذلك العصر تبدو وكأنها حلم من الأحلام، وكان الناس ورئيسهم وحكومتهم يشاركون فى الحلم أو الفيلم دون أية فوارق بين البطل والكومبارس.
كان عبدالناصر معنا ونحن تلاميذ فى مدرسة ابتدائية فى حى شعبى فقير، فالمدرسة الفقيرة كانت تقدم لنا سبع حصص كل يوم على أيدى مدرسين على قدر كبير من الكفاءة والإخلاص، وكانت تقدم لنا حصص الموسيقى وحصص التربية الرياضية وحصص النشاط مثل الأشغال والتربية الزراعية والتدبير المنزلى، وكان بالمدرسة فرق رياضية تتدرب بانتظام وتشارك فى دورى حقيقى داخل وخارج المحافظة، وكان التلميذ الذى يتلقى درساً خصوصياً يتوارى من زملائه حتى لا يعايره أحد بهذا السلوك المعيب!! كان التعليم حقيقياً، وكان التصنيع حقيقياً، وكانت الزراعة حقيقية، وكنا نشارك بالفعل فى كل خيرات هذا الوطن، وكان كل منا يشعر أنه عبدالناصر صغير فى مدرسته، وعبدالناصر شاب فى مصنعه، وعبدالناصر فى الجيش، وعبدالناصر فى الحقل، وعبدالناصر فى الشارع والبيت والجامعة وفى الواقع وفى الأحلام.
لم يكن الفقر يؤرقنا فى عهد عبدالناصر، كنا نحلم معه بمصر الزعيمة ومصر القوية ومصر الغنية ومصر التى تسعى لتوحيد العرب والأفارقة وكل شعوب العالم الثالث، كنا نخوض معه كل المعارك، ولم يكن عبدالحليم كاذباً وهو يقول فى إحدى أغنياته «اطلب تلاقى 30 مليون فدائى»، كان الناس كذلك بالفعل، كان الجميع على استعداد للتضحية والاستشهاد من أجل هذا الوطن الذى حوّله عبدالناصر إلى حلم رائع ومبادئ يتغنى بها الناس صغيرهم قبل كبيرهم.
عبقرية عبدالناصر ليست الكاريزما أو النزاهة أو الزهد أو الابتعاد الكامل عن الفساد الشخصى. عبقرية هذا الرجل هى أنه أول رئيس مصرى فى التاريخ يحقق التوازن فى الاستثمار بين البشر والحجر. لم يكتفِ عبدالناصر بإنشاء المصانع وبناء السد العالى والمساكن الشعبية والمدارس وغيرها، ولكنه عزف سيمفونية العدل الاجتماعى للمرة الأولى فى تاريخ هذا الوطن. تقلصت فى عهده الفوارق بين الطبقات، وزالت الواسطة والمحسوبية فى كل قطاعات الدولة، صار ابن البواب وابن الفلاح وابن ماسح الأحذية قادراً على الوصول إلى أى منصب فى الدولة ما دام حاصلاً على المؤهل العلمى الذى يؤهله لهذا المنصب. لم يكن فى عهد عبدالناصر توريث للمناصب فى القضاء والبنوك والخارجية والداخلية والبترول (إلخ). لم يكن فى عهد عبدالناصر شخص مثل كمال الشاذلى يصنع قرى وعائلات يعمل كل سكانها فى السلك القضائى، ولم يكن فى عهده مدير لكلية الشرطة يقول إن من حق الكلية اختيار طلابها من طبقات وعائلات متميزة، ولم يكن فى عهده حزام أخضر أو أصفر يستولى عليه السياديون حتى لو كانوا ضباط رقابة إدارية مثلما حدث فى عهد هتلر طنطاوى ومحمد إبراهيم سليمان.
لم يسعَ عبدالناصر لتكريس أية امتيازات فئوية لنفسه أو لرجاله، ولكنه على العكس من ذلك فتح أبواب كل الوظائف لكل فئات الشعب، وقدّم للناس التأمينات الاجتماعية فى أفضل صورة ممكنة، وكان يحاسب الفاسدين حساباً فورياً حتى لو كان الفاسد شقيقه الليثى عبدالناصر أو زميله محمد أنور السادات أو صديق عمره عبدالحكيم عامر.
وعلى الصعيد العربى والدولى نجح عبدالناصر فى وضع مصر على قمة منظومة الحياد الإيجابى، وتمكّن من تقديم كل المساعدات الممكنة للدول الأفريقية حتى حصلت كلها تقريباً على الاستقلال، واستضافت مصر فى عهده حكومات الدول العربية التى تسعى للتحرر مثل الجزائر وليبيا وغيرهما، وصار مع نهرو وتيتو قوة عظمى فى مواجهة أوروبا وأمريكا وحلفائهما من رؤوس وذيول الاستعمار القديم، وبذل جهوداً شبه إعجازية فى محاولة تحرير العرب من التخلف والقبلية والطائفية البغيضة. وما زالت بعض الدول العربية وبعض دول أمريكا الجنوبية تحتفظ حتى الآن بأحزاب ناصرية رغم أن مصر تخلصت عملياً من مثل هذه الأحزاب!
لم يكن عبدالناصر مجرد رئيس أو زعيم، ولكنه «حالة» لم تشهدها مصر فى أى عهد آخر طوال تاريخها. كنا شعباً يعيش عهداً من الاستنفار اليومى والأمل اليومى والحلم اليومى والإنجاز اليومى. صرنا آنذاك نعشق المبادئ والنضال لأنها لم تكن مجرد كلمات عبثية ولكن حقائق ملموسة نعيشها ونشارك فى صنعها والحفاظ عليها. كنا نتغنى بالثورة وأمجادها وإنجازاتها فى طوابير الصباح بالمدارس، وكنا كلنا زعماء كعبدالناصر، ومسئولين كعبدالناصر، وحريصين على الوطن كعبدالناصر، ومجتهدين كعبدالناصر، ومناضلين كعبدالناصر، كنا نخجل من الفشل الدراسى حتى لا نخذل الوطن، وكنا نحرص على نظافة بيوتنا وشوارعنا حتى نشارك فى الرقىّ الذى ينشده عبدالناصر، وكنا ننبذ الفردية وننكر ذواتنا ونذوب فى الجماعة التى صنعها عبدالناصر لهذا الوطن وحاول صناعتها للأمة بأسرها.
كنا أطفالاً فى زمن النكسة، ولكننا خرجنا مع الجموع الحاشدة لنطالب عبدالناصر بالاستمرار فى النضال ومواصلة الحلم الذى كادت الهزيمة تقضى عليه. وتجاوزنا معه الأزمة رغم قسوتها، وبعد أيام أو أسابيع قليلة كانت بقايا الجيش المصرى تتصدى للصهاينة فى رأس العش، ثم بعد شهور كانت مصر تحتشد لبناء حائط الصواريخ، ثم تخوض حرب الاستنزاف، ثم تحقق الانتصار فى السادس من أكتوبر. كان عبدالناصر غائباً بجسده يوم النصر، ولكنه لم يغب على الإطلاق منذ رحيله، فهو -كما سبق القول- حالة وليس مجرد شخص يعيش حيناً ثم يموت كسائر الكائنات.
هذا الكلام ليس محاولة لرثاء عبدالناصر فى ذكرى ميلاده، ولكنه مجرد نسبة ضئيلة للغاية من ذكريات مواطن عاش عدة سنوات فى العصر الذهبى لهذا الوطن.