بصوت هادئ، وقبل ثلاثة أعوام تقريباً، اتصلت بى إحدى الفتيات وبعد أن تأكدت من شخصيتى وأن الرقم صحيح أبلغتنى على الفور أنها محكوم عليها بالإعدام شنقاً. وقبل أن نسأل قالت إنها تتكلم من السجن وإنها هى فقط التى يمكنها الاتصال بنا لأنها ستستخدم كل مرة هاتفاً مختلفاً وفق ظروفها وأنها متهمة فى قضية قتل بالمنيا إلا أنها وبعيداً عن أى تفاصيل سواء بريئة أم لا أو الظروف التى دفعتها لقتل جارتها فإنها لا تستحق الإعدام لسبب بسيط جداً لأنها لم تكمل الثمانية عشر عاماً لكنها من أسرة فقيرة وليس لديها محامٍ يتحمل أمر القضية بشكل جاد ومسئول ولذلك لم يستطِع المحامى الذى يدافع عنها إثبات ذلك لأنه لم يستخرج الأوراق وليس متفرغاً لذلك ولذلك سرقتنا الأيام حتى صدر الحكم!
كتبنا القصة وحدثنى خطيبها متوسلاً أن أبحث له عن محامٍ يستطيع التصرف فقد صدر بالفعل حكم النقض وصار الحكم باتاً ويمكن تنفيذه فى أى وقت.. وكتبنا وقتها.. وقرأوا فى السجن ما كتبناه وقرأ خطيبها.. وبعد أيام أبلغنى أحدهم، وقد كان يتابع الموضوع، بخبر تنفيذ حكم الإعدام فى سجن أسيوط فى عدد من الأفراد بينهم فتاة واحدة.. وكانت هى!!
بعد انتهاء الدهشة أو لنقل الصدمة التى أخذت وقتاً طويلاً قلنا ربما كان الزعم المذكور كاذباً.. فالأمر لم يكن ليحتاج إلا إبلاغ القاضى من خلف القضبان بالمعلومة ليصدر بنفسه قراراً باستطلاع الأمر من الجهات المختصة أو ربما كان المعيار هو لحظة تنفيذ الإعدام وليس من لحظة وقوع الجريمة أو من فترة المحاكمة وأنه من المستحيل أن يصدر قاضٍ حكماً بالإعدام على فتاة يبدو عمرها من شكلها من دون التأكد من سنها الحقيقية!
وقبل فترة، وصلت رسالة تحمل استغاثة مختلفة.. من خارج الحدود هذه المرة، بل من وراء المحيط الأطلنطى كله ومن أقصى بلاد العالم.. من البرازيل.
وكسابقته، ظل صاحب الاستغاثة يطلب بأدب جم وبهدوء منقطع النظير حتى لو كان لا يخلو من التوتر والقلق أن ننقذه من الجحيم الذى يعيش فيه ويعانى منه منذ أربع سنوات كاملة!
يقول بأسى بالغ إنه يحمل ليسانس فى اللغة الإنجليزية عمل به مدرساً لفترة من الوقت بعدها ترك التدريس وعمل بعدة مهن اكتسب منها كلها خبرات جيدة منها التسويق والإعلان والترجمة حيث يجيد عدة لغات فضلاً عن الإنجليزية لكنه أيضاً يتحدث البرتغالية والإسبانية بطلاقة.. وبسببهما قرر الذهاب إلى أمريكا الجنوبية أملاً فى مستقبل أفضل فلا أحد له فى مصر.. واختار أن يجرب حظه فى البرازيل..
أنهى دورات متخصصة فى الإلقاء والتمثيل والتقديم التليفزيونى وحمل شهادات من المؤسسات التى عمل بها تفيد خبرته فى كل منها وحسن سيره وسلوكه واستخرج أوراقه الرسمية وصوراً أصلية من شهاداته الدراسية وحجز تذكرته إلى البرازيل وسافر إلى هناك.
كان عامل اللغة مشجعاً على التجربة.. هناك.. فى أمريكا الجنوبية يتحدثون اللغتين اللتين يجيدهما.. البرتغالية والإسبانية وبالتالى فقدرته على التعامل مع البرازيليين أو حتى المقبلين إليها كبيرة.. وقد ساعده ذلك بالفعل مع ما يحمله من تحويشة سنوات طويلة حوّل بعضها إلى الدولار وبعضها إلى الريال البرازيلى.. وبدأ رحلة البحث عن سكن ومعها رحلة أخرى للبحث عن عمل.. فتش عن فرصة فى شاطئ باكوبانا الشهير الجميل رغم أنهم يقولون إن شواطئ ليبلون أو شاطئ إيبانيما أكثر سحراً منه ولكن تظل منطقة تمثال المسيح الفادى أو ما يطلق عليه البرازيليون الـ«كوركوفادو» المنطقة الأشهر على الإطلاق فى هذه المدينة الكبيرة أو العاصمة السابقة للبرازيل وهى منطقة جبلية يصعدون إليها بالقطار فى أعلى الجبل.. المهم.. بحث عن عمل بحى بوتافوجو التجارى.. تعب كثيراً حتى وجد عملاً شبه مناسب ومرت الأيام حتى فوجئ ذات ليلة وهو عائد من عمله وبينما يمر فى أحد شوارع ريو دى جانيرو بمجموعة من الشبان تطارده بعجلات بخارية ويستوقفونه ويهددونه بالقتل إن لم يسلمهم كل ما معه.. فسلمهم كل شىء ونجا بحياته!
لا تعنيه الأموال التى أخذوها وهاتفه وساعته.. يعنيه أوراقه التى ضاعت وذهبت معها هويته.. يقول إن جرائم السطو والسرقة بالإكراه هى الأشهر حتى إنه فى العام الماضى وقع أكثر من 3 آلاف حادث فى ريو دى جانيرو التى يزيد سكانها على 14 مليون مواطن، وإن عشرات من رجال الشرطة ذهبوا ضحية تصديهم لها!
كان منطقياً أن يلجأ أولاً إلى الشرطة التى يقول إنها لا تفيد أبناءها ولا تحميهم وبالتالى لم تستطع العثور على متعلقاته ثم لجأ بالطبع إلى القنصلية المصرية التى كما يقول ترفض استخراج جواز سفر له أو ترفض مساعدته فى العودة إلى مصر لعدم قدرته على تسديد مقابل ذلك!! وهو الآن بلا عمل بعد فقده لعمله المؤقت.. يضطر للعمل فى المهام المؤقتة كتنظيف الأماكن أو الوقوف بديلاً للغائبين فى محطات الوقود أو فى كل الأعمال التى يرفض الآخرون القيام بها.. من أجل أن يستمر على قيد الحياة.. فأمواله كلها أنفقها وسكنه تركه لعدم قدرته على قيمته لنقف أمام مواطن مصرى لا يستطيع العمل هناك ولا امتلاك ما يثبت هويته ولا العودة لمصر حتى، متعهداً بسداد قيمة عودته بأى طريقة ممكنة!! فماذا يفعل؟! هكذا يأتى صوته باكياً عبر تسجيلات تركها ورسائل طويلة واستغاثات لا تتوقف!
انتهت القصة.. والتى ننقلها إلى وزير الخارجية ووزيرة الهجرة وكل من يعنيه الأمر فى مصر قياماً بدورنا كوسطاء بين المصريين ومسئوليهم.. وقد تأخرنا فى نشرها نظراً للأحداث المتلاحقة فى مصر وكل دقيقة مرت على صاحبها كدهر كامل..
وقبل الختام نتوقف قليلاً لنقول إن السطور السابقة نقلاً عن صاحبها لا نملك منها إلا الصياغة والمعالجة.. تبقى التفاصيل مثل قصة فتاة الإعدام التى بدأنا بها.. على عهدة صاحبها.. كاملة!