١ ـ فى يوليو عام ١٩٧٤ قامت القوات التركية باجتياح الجزء الشمالى من جزيرة قبرص رداً على مساندة اليونان للانقلاب العسكرى الذى حدث بها، وكانت نتيجة الاجتياح أن سيطرت تركيا على الجزء الشمالى من تلك الجزيرة الصغيرة، التى قامت فيه بعد ذلك ما يعرف الآن بجمهورية شمال قبرص، لقد ترتب على ذلك الاجتياح أن رفضت تركيا التوقيع على قانون البحار الدولى الذى صدر سنة 1982، والذى دخل حيز التنفيذ سنة 1994، بل ربما كانت تركيا هى الدولة الوحيدة فى العالم التى تطل على بحر ولم توقع على هذه المعاهدة الدولية، وأدى ذلك إلى خسارتها حق التنقيب عن الغاز الذى ظهر فى المتوسط مؤخراً؛ لأنها لم تمتلك بحراً إقليمياً قط!! ربما لا يعرف الكثيرون تلك الحقائق، بينما لا يهتم البعض الآخر بها من الأساس، ولكنى أعتقد أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالتاريخ دوماً هو ما يرسم الجغرافيا!
٢ ـ فى تصريحات عنترية، لا سبب لها فى رأيى إلا استفزاز النظام المصرى، يعلن وزير خارجية تركيا أن دولته بصدد التنقيب عن الغاز شرق البحر المتوسط، وأنه يرفض اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، التى كان نتيجتها أن تمكنت مصر من التنقيب عن الغاز فى عمق البحر المتوسط، ومن ثم اكتشاف حقل ظُهر، الذى سيغير من الشكل الاقتصادى للدولة المصرية فى مجال البترول.
التصريحات تتسق مع شخصية الرئيس التركى الذى ما زال يحلم بخلافته القديمة منذ أن ظهر على الساحة. فلم يعترض «أردوغان» وحكومته على الاتفاقية ذاتها بين قبرص وإسرائيل مثلاً، التى تعتبر أقرب إليه وأكثر تأثيراً على حصته التى يسعى إليها، ولكن يبدو أن «أردوغان» يعانى من كل ما يتعلق تحديداً بولايته القديمة ذات الخيرات، أو الدولة المصرية بتعريفها الحديث!
٣ ـ يحاول النظام التركى التحرش بمصر فى كل مناسبة عن طريق تصريحات تستهدف الاستفزاز فى المقام الأول، بينما ترد الخارجية المصرية رداً منضبطاً ينم عن رباطة جأش واضحة. لقد كان الرد الأوضح على تصريحات «أردوغان» هذه المرة هو تلك المشاهد للقطع البحرية المصرية التى تحوم حول حقل ظُهر مع بدء العملية العسكرية فى سيناء، كما كان انتقال حاملة الطائرات جمال عبدالناصر إلى شرق المتوسط إجابة شافية على كل اعتراضاته الساذجة!!
هناك من الأفعال ما يعجز الكلام عن وصفه، ولكن الأهم أن الأفعال دوماً هى شيم الرجال، بينما يظل الكلام.. مجرد كلام!
٤ ـ يعانى رأس الدولة التركية مؤخراً من ضغوط لا يمكن تجاهلها، فحجم استثماراته التى ضخها عبر عشر سنوات آخذ فى التآكل تدريجياً، ومساحات النفوذ الاقتصادى تتضاءل يوماً بعد يوم، حتى حلم الخلافة الذى راوده بعد تمكن التنظيمات الإسلامية من دول الربيع العربى قد تحول إلى كابوس بعد ثورة الثلاثين من يونيو! يحاول «أردوغان» استعادة كل ما فقده من خسائر على حساب الدولة المصرية، مستمداً قوته من خلفيته العثمانية التى كانت تتعامل مع مصر من منظور فوقى، ومتوهماً أن مصر ما زالت تلك الولاية الممتلئة بالخيرات، والتى ترسل المكوس سنوياًً إلى الباب العالى فى خنوع وضعف!
ينسى الرئيس التركى -أو يتناسى- أن مصر لم تعد كما كانت، وأن النظام المصرى قد استعاد عافيته، وقطع الأسطول البحرى المصرى التى انتقدها الكثيرون تتوق للهو مع كل أحلامه التى تحمل الجينات الاستعمارية الموروثة!
٥ ـ لن يهدأ النظام التركى إلا بنشوب حرب تطيح برأسه الذى حاول الحفاظ عليه باعتقال آلاف المعارضين وغلق الصحف ووسائل الإعلام، بل وبعد أن عبث فى الدستور التركى نفسه ليبقى أطول فترة ممكنة فى سدة الحكم! سيحاول الرئيس التركى مراراً استفزاز النظام المصرى بالتصريحات تارة وربما بالتحركات لاحقاً، ولكنى أعتقد أن صدمته ستصبح شديدة حين يكتشف أنه يتعامل مع نظام يحرص على سيادة الدولة أكثر بكثير من حرصه هو على كرسى خلافته المزعومة!