ثمة حالة مسيطرة على الكثيرين هذه الأيام يمكن وصفها بحالة «خُد الشوط لآخره». فى الأدبيات العامية المصرية تصف هذه العبارة الحالة التى يقرر فيها شخص أن يخوض طريقاً حتى آخره دون تحفظ أو اكتراث بالمشكلات أو العقبات التى يمكن أن يصادفها فيه. هذه الطريقة فى الأداء لا تعتمد على «الحساب»، أو «التحسب»، إنها تشبه إلى حد كبير الطريقة التى يؤدى بها المقامر الذى يحكمه منطق: «إما أن أكسب كل شىء أو أخسر كل شىء».
تستطيع أن تجد تبياناً لهذه القاعدة فى الأداء فى الأسلوب الذى تؤدى به الكثير من الأطراف التى تتفاعل على مسرح السياسة والاقتصاد والحياة عموماً فى مصر خلال الشهور الأخيرة. السلطة تؤدى مع خصومها بالسير فى الطريق حتى آخره، فتتخذ كل الإجراءات المتوقعة وغير المتوقعة عندما تختلف معهم. وخصوم السلطة -هم الآخرون- «واخدين الشوط لآخره» فى صراعهم معها، فيتحركون بلا سقف، ودون تحفظات. الكلمات تنطلق من هنا وهناك حادة وحاسمة وقاطعة، لا حدود على الاتهامات التى تطلق من هذا الطرف أو ذاك، حتى لو كانت هذه الاتهامات مرسلة دون دليل.
ولا يختلف المشهد الاقتصادى كثيراً عن المشهد السياسى. الحكومة لا تحدها حدود فى الإجراءات التى تتخذها من أجل مواجهة المشكلات الاقتصادية المزمنة التى نعانى منها. لا يوجد سقف لسعر أية سلعة فى مصر الآن. صغار التجار وكبارهم أصبحوا يهتمون بالمخازن أكثر مما يعتنون بمنافذ البيع. كثير من أصحاب المتاجر والمحال يحرصون هذه الأيام على تأجير المخازن والتوسع فى تخزين السلع، تحسباً للموجات الجديدة المتوقعة، التى يمكن أن ترتفع معها أسعار السلع. يشترون السلعة بثمن ويختزنونها لتباع فى وقت مقبل بسعر مضاعف مرة أو مرتين. والحكومة من ناحيتها تيسر على التجار الأمر!. اتخذ المسئولون قراراً يلزم كل تاجر أو بائع بوضع سعر كل سلعة عليها، لكنها لم تحسن المراقبة، فأصبح القرار ابن اليوم الذى صدر فيه، أما باقى الأيام فمتروكة للتاجر كى يأخذ الشوط مع الزبون حتى آخره.
لا حساب ولا تحسب، كذلك الأداء داخل دواليب السياسة والاقتصاد، ومنها انتقلت الحالة إلى المجتمع، فأصبح شعار بعض المواطنين هو: «آخد الشوط لآخره»، دون اكتراث بالنتائج التى يمكن أن تترتب على هذه الطريقة فى الأداء. المشكلة أن سيطرة هذه الحالة لا بد أن تؤدى إلى عواقب غير مريحة. الخطوات غير المحسوبة والقرارات العصبية والتصريحات المرسلة الهادفة إلى المكايدة لا يمكن أن تؤدى إلى نتائج مقنعة تحقق استقراراً فى الأوضاع. سمة «التحفظ» من السمات الأساسية التى كانت تميز الشخصية المصرية. كذلك ذهب جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر». وظنى أن الرجل لو عاش ما تعيشه مصر هذه الأيام، لاضطر إلى مراجعة ما ذهب إليه. استحضر «حمدان» هذه السمة فى سياق تحليله للطبيعة الوسطية للشخصية المصرية، التى تدفعها باستمرار إلى الصبر والتسامح مع الغير. ثقافة «خد الشوط لآخره» تضرب «الوسطية المصرية» فى مقتل، لأنها ببساطة تعبر عن «رؤية حدية» كفيلة بزلزلة الأرض تحت أقدام الجميع!.