تختلف قدرات الناس على احتمال الفشل والإحباطات.. منهم من يتماسك ويصمد، ومنهم من يتجاوزها ويمضى، ومنهم من يسقط ويتهاوى، أو يقع فريسة لعقد نفسية ومركبات نقص تنضح فى سلوكه وتصرفاته ومعاملاته.. ما ظهر منها أو ما استطاع إخفاءه أو مواراته.. وأكثر العقد النفسية نضوحاً على الناشبة فيه العقد التى لا يتنبه إليها أو يعرف جذورها وأسبابها.. والوقوع فى وهدة العقد أو مركبات النقص فرع على ضعف داخلى يقترن غالباً بقلة الثقة بالنفس مع الاهتمام بادعاء العكس!!
تعدد الأسباب
وكما تتعدد أسباب العاهات الجسدية أو العضوية، تتعدد أيضاً أسباب العاهات أو العقد النفسية أو مركبات النقص.. الفارق بينهما أن العاهات العضوية تتلقى مواجهة جسدية تلقائية تعويضية فنجد الأذن أو العين تعوض ضعف الأخرى، وكذلك نجد اليدين والساعدين والساقين، فيتم التعويض تلقائياً بهذه المواجهة الجسدية التلقائية التعويضية، وقد يستعين النقص الجسدى بأجهزة صناعية تعويضية كالأطراف الصناعية والنظارات الطبية والسماعات وأجهزة تنظيم أو تقوية نبضات القلب أو دعامات توسيع الشرايين.. إلخ.
أما العاهات النفسية والعقد ومركبات النقص فقد تكون مخفاة عزيزة أو صعبة الاكتشاف إلّا على الخبراء، وربما إلى حد الاستحالة على الواقعين فى وهدتها، ثم إن علاجها يحتاج، إلى جوار الخبرة التحليلية والعلاجية النفسية، يحتاج إلى تيقظ وتعاون إرادى وواعٍ ومتفطن من المصاب بعللها وأسقامها.. وأول مقومات العلاج الذى لا يجرى إلّا بالتعاون بين الإخصائى والمريض، أنه لا بد أساساً من معرفة جذورها ومركباتها وتراكماتها.. ودور الإخصائى النفسى هنا لازم وبلا بديل.. هناك مثلاً من لديهم عقدة أو خوف من الارتفاعات، وهناك من لديهم عقدة أو خوف من المياه، ومنهم من يعانون من رهاب مواجهة الحياة أو ضعف الثقة بالنفس!
فصاحب العاهة الجسدية يعوضها تلقائياً بنمو الأعضاء التعويضية، كاشتداد قوة إبصار إحدى العينين أو قوة سمع إحدى الأذنين إذا أصيبت أو وهنت الأخرى، أو بقوة أحد الساعدين لتعويض الآخر.. وهكذا.. أما العاهة أو العقدة النفسية أو مركبات النقص، فلا تواجَه إلّا بعمل إرادى متفطن إلى مكمن العلة أو الداء.. وهذه المواجهة الإرادية ليست ميسورة المنال لدى ضعاف النفوس أو الذين تمكنت منهم العقد النفسية.. بل قد يكونون غافلين عنها، ناهيك عن أن يتفطنوا لمقاومتها أو علاجها.. وذلك على خلاف العلل البدنية!
فى مستهل حياته، أدرك الأستاذ العقاد بذكائه وقوة إرادته أن برئتيه ضعفاً فكان حريصاً على جفاف المحيط الذى يعيش فيه، سواء فى سكنه الذى اختاره علـى مشارف الصحراء، أو فى رحلاته المقصودة للعلاج إلى أسوان، أو فى الصبر على حمامات الدفن فى الرمال.. وكانت ثقته فى نفسه أقوى من كل ما واجهه من صعاب.. باع مكتبته أكثر من مرة، وحاصرته الحاجة أحياناً، فلم يتزعزع إيمانه بقامته وقدراته.. لم يهتز حين خسر انتخابات مجلس النواب، وكذلك الزعيم الكبير مصطفى النحاس الذى خسر الانتخابات البرلمانية فى دائرته سمنود.. فلا نَقَصَ الأستاذ العقاد أو اهتز، ولا نَقَصَ الزعيم مصطفى النحاس أو أحس بالعار!.. واجه الأستاذ العقاد الأمر بثقة ماضية وحكمة بالغة حين قال: «قيمتك فى نفسك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك».. أو حين قال: «إذا أحبك الناس مخدوعين فلا تفرح، وإذا كرهك الناس مخدوعين فلا تحزن.. بعض الكراهات خير لك من بعض المحبات»!
قيمة الإنسان فيه
قيمة الإنسان فيه، لا فى مرايا الآخرين.. مستوية كانت أو محدبة أو مقعرة، ولكن تنشب الأزمة حين تتغلغل التفاهة وقلة القيمة وهوان الشأن إلى داخل الإنسان.. وكثيراً ما يكون لهذا الهوان مقدمات قد لا يمسك بها الواقع فى وهدتها، ولكنها تتحكم فى مسارات وحوادث ومصادفات حياته.. أحياناً بالوعى وأحياناً باللاوعى.. كشأن الجازع من العمل الحر الهارب منه إلى حماية وأمان الوظيفة العامة على نظام: «إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه»!.. فإن فاته الميرى طلب الأمان فى الوظيفة الخاصة، حتى وإن بذل فيها من كرامته!!
الخوف ومنابعه
والخوف من مواجهة الحياة خوف من المجهول يزيده ضعف الثقة بالنفس أو الإحساس بقلة الحيلة، وقد يغذيه استسهال الحلول الموصلة للثراء أو اليسار أو مراقى السلطة أو المجتمع، باللجوء أحياناً إلى الوساطات والمحسوبيات أو شراء الذمم بالرشاوى، أو الإقدام على الزيجات الأكثر حَسَباً أو الأكثر مالاً! وأمثال هذه الحلول تتضافر مع العقد النفسية ومركبات النقص فتزيد كُمُونها وتمكنها من الشخصية التى لا تشعر بحكم العادة بحقيقة ما يعتمل ويتراكم فى داخلها من عقد نفسية ومركبات نقص تنضح فى سلوكيات وتصرفات لا يستطيع الواقع فى وهدتها أن يلتفت إليها ناهيك عن أن يتفطن إلى علتها ويعالجها!
لا يأس مع الحياة
أمثال هؤلاء لا يصمدون للفشل وهو قدر على جميع الناس، ويسرع إليهم الإحباط فلا يتماسكون كما يتماسك الأقوياء، وقد يعتريهم اليأس والاكتئاب والمزيد من مركبات النقص لمجرد التقدم فى السن أو البطالة أو الإحالة إلى المعاش.. وتسيطر عليهم العقد الكامنة التى تؤدى إلى المزيد من فقدان الثقة بالنفس مقترنة بالرغبة فى التعويض بالمظاهر ظناً أنها سوف تستر خواء الداخل!
الصدق مع النفس
لا شك أن الصدق مع النفس باب من أبواب مواجهة الصعاب ومغالبتها والتغلب عليها، وهذا الصدق يستنفر الإرادة ويغذيها، ويدفعها لإدراك ما تحرص باللاوعى على إخفائه، فإذا أدركته وتبينته وضعت الإنسان على بداية الطريق الذى يدفع إلى الحياة، ويعين على غمارها ومصاعبها، ويستكشف ما أحاط بالشخص من يأس أو خوف أو رهاب أو إحباط، وهذا أول طريق المجاهدة والعلاج الصحيح واستنهاض العزيمة التى تعين على الاستمرار، وتعى عملاً وفعلاً لا قولاً أنه لا يأس مع الحياة.
أقوياء الداخل
أقوياء الداخل هم الأقوى على الثبات والصمود، وعلى الإخلاص والوفاء والمحافظة على الصداقات.. لا يصمد الضعيف للصعاب ولا للإخلاص ولا يقوى على الوفاء.. ولا تجد له صديقاً تدوم صداقته وإياه.. أخطر ما يصيب الآدمى خواء وضعف داخله، قوة الداخل هى الصمام الواقى من تداعيات العقد النفسية ومركبات النقص، وهى الواقى أيضاً من الخوف أو الجزع أو الإحباط أو فقدان الثقة بالنفس لدى من لا يتحملون ما قد يصادفهم من ملمات أو إخفاقات!
قوة النفس متانة داخلية ومضمون خصب وطاقة متدفقة دافعة، وتربيتها غاية كبيرة تحتاج إلى عزيمة ماضية وهمّة صادقة!