كل حكام مصر فى شتى عصورها طالبوا الشعب «بشد الحزام»، حتى لو كان الناس أو بعضهم لا يملكون ثمن هذا الحزام من الأصل!
وفى القرن الماضى، غنى الفنان سيد درويش أغنية شهيرة حول هذا الموضوع يطالب فيها الناس بشد الحزام على بطونهم، لأن هذا هو الحل الوحيد المفيد، ثم منحهم فى الأغنية بعض الأمل حين بشّرهم بإمكانية أن «يعدّلها سيدك»، أى أن يرزقهم الله من فضله ويقيهم بعض آلام الجوع والفقر!
«السادات» وحده هو الحاكم الذى لم يأمرنا بشد الحزام، ولكنه على العكس بشّرنا بالتخلص من «اشتراكية الفقر» المنسوبة لعبدالناصر، وقال إن الشخص الذى لن يحقق الثروة فى عهده، فلن يحققها فى أى عهد لاحق!!
ثم انطلق فى بيع كل ممتلكات الدولة، حتى يمنح الشعب المصرى الكريم فرصة الثراء العشوائى على طريقة المثل الشعبى: «لو بيت أبوك وقع.. إلحق خد لك قالب»! واستمرت سياسة تخريب البلد على مدى أربعة عقود باعتبار أن «مبارك» لم يكن سوى امتداد لعهد أنور السادات، والشىء الوحيد الذى خالف «السادات» فيه هو عودته لدعوة الناس إلى «شد الحزام» بعد أن بشّرهم السادات بالثروات الطائلة، ومش مهم منين!!
انتهت قضية الحزام مؤقتاً فى الأسابيع الأولى من ثورة يناير، ففى ذلك الحين أجبر المتظاهرون رئيس الدولة على الرحيل، وصارت الصحف وشتى وسائل الإعلام تكتب كل يوم عن ثروات مبارك وأسرته وحاشيته، وقالت إحدى الصحف الحكومية فى المانشيت الرئيسى إن ثروة مبارك وحده تصل إلى سبعمائة مليار دولار، وإن هذه المليارات ستعود خلال أيام إلى أرض الوطن، وطفق المواطنون يخلعون الأحزمة، وهم يحولون هذا المبلغ الرهيب إلى جنيهات مصرية، ثم يوزعون الرقم على عموم الشعب ويحسبون نصيب كل أسرة وفق عدد أفرادها!!!
تحولت أحلام يناير إلى كوابيس، حين تقلصت مليارات مبارك إلى حفنة ملايين وبعض الهدايا التى أعادها الرئيس الأسبق وأسرته إلى خزانة الدولة عقب إحالتهم للمحاكمة، ثم تحولت الثورة نفسها إلى إحدى الشدائد العظمى التى واجهت المصريين عبر مراحل تاريخهم، ففى فترة الفرز الشعبى التلقائى دون وصاية من الدولة أو النظام لم يتمكن المصريون من العثور على رئيس يقود التحول الديمقراطى وينهض بالبلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً سوى المرشح الطائفى الذى تسلم الدولة وقدّمها فوراً لعصابات الإسلام السياسى الإرهابى!
اكتشف المصريون بعد شهور قليلة من سقوط نظام مبارك أنهم شعب يعانى الفقر السياسى أكثر مما يعانى فقر الفلوس، اكتشفوا أن أحزابهم مشلولة ونخبتهم السياسية مريضة، وأنهم جميعاً لا يستحقون الديمقراطية والحرية، ولا يفهمون منها سوى الهياج والصياح والشتائم والمظاهرات والاعتصامات وتخريب مؤسسات الدولة، وعاد الناس يبحثون عن الأب المنقذ، إلى أن عثروا على عبدالفتاح السيسى الذى تمكن بالفعل من طرد الإخوان وإنقاذ الدولة من خلال عدة إجراءات لم يشهد التاريخ المصرى نظيراً لها، فـ«السيسى» هو أول شخص عسكرى يستخدم كلمة «يحنو» فى بيان سياسى أو عسكرى. و«السيسى» هو أول وزير دفاع يطالب رئيس الجمهورية فى بيان رسمى بالاستجابة لمطالب الشعب ويمنحه مهلة محددة لتنفيذ هذه الأوامر. و«السيسى» هو أول وزير يجمع رموز التيارات المختلفة مثلما حدث فى 3 يوليو، ليصنع بهم نظاماً جديداً دون انقلاب عسكرى أو ثورة شعبية تفرض هذه الإجراءات بنفسها.
و«السيسى» أيضاً هو أول وزير يصنع كل هذا، ثم يستمر وزيراً فقط فى العهد الجديد الذى صنعه بيديه، ثم يصير بعد ذلك رئيساً للجمهورية بناءً على شبه إجماع من كل فئات الشعب، ما عدا القوى الإرهابية التى طردها من السلطة. والأهم من كل هذا أن «السيسى» هو أول وزير يطلب من الشعب تفويضه فى محاربة الإرهاب، فيخرج نحو ثلاثين مليون مواطن فى كل شوارع مصر استجابة لهذه الدعوة.
الترحيب الشعبى الجارف بالسيد عبدالفتاح السيسى كان فى جوهره اعترافاً ضمنياً من الشعب المصرى الكريم بأن أوان الديمقراطية لم يأت بعد، وأن مصر ما زالت فى حاجة للمزيد والمزيد من النظام السياسى الأبوى. ولو كان «السيسى» ملاكاً من السماء، ما فكر لحظة واحدة فى وضع البناء الديمقراطى والحريات السياسية على رأس أولوياته وهو يقود شعباً فشل تماماً فى استغلال الحرية المطلقة التى أتيحت له عقب رحيل مبارك، ثم فشل فى مقاومة نفوذ الإخوان، ثم عاد بعد ذلك يبحث عن منقذ من خارج الأحزاب السياسية والمجتمع المدنى والنخبة الثورية الراديكالية التى توقفت خياراتها عند مرسى وشفيق!
المصريون -رغم حضورهم الكثيف فى مشهد 30 يونيو- ليسوا أصحاب الفضل فى طرد الإخوان من السلطة، ولكن الفضل الأول وربما الأخير يرجع للسيسى ومعه المجلس العسكرى، ولو كان للشعب أو المؤسسات الديمقراطية أى فضل جوهرى فى هذا الصدد لاختلفت أولويات النظام حتى فى ظل رئاسة «السيسى» له.
المهم فى هذا السياق أن «السيسى» صار رئيساً أبوياً جديداً للدولة المصرية، وتقتضى الموضوعية والإنصاف تبرئة الرئيس من اختيار هذا الوضع بنفسه أو لنفسه، فالواقع السياسى والشعبى هو الذى فرض هذا الخيار. ويذكر بالخير للرئيس أنه لم يؤسس لنفسه حزباً سياسياً كما فعل سابقوه، ويذكر له أيضاً أنه لم يمارس الخداع أو النفاق بحثاً عن شعبية زائفة، ويذكر له كذلك أنه لم يتوقف لحظة واحدة أمام آلاف العقبات التى تجبر أى حاكم فى ظروفه وظروف مصر على اليأس من إمكانية الإصلاح الحقيقى لأوضاع البلاد.
صار «السيسى» رئيساً للجمهورية فى ظل إجماع شعبى يمكن اعتباره امتداداً لتفويض 30 يونيو، ثم تفويض محاربة الإرهاب. وأدار البلاد منذ بداية ولايته على طريقة الأب الذى يضع ملعقة الدواء فى فم طفله الصغير، ويجبره على ابتلاعها رغم مرارتها!
لم يقل للناس: «شدوا الأحزمة على بطونكم»، كما قال سابقوه، ولكنه بدأ على الفور عملية إصلاح وبناء أجبرت معظم الناس على الاستغناء عن الأحزمة والاكتفاء بالرفع اليدوى للبنطلون بين الحين والآخر، كما كان يفعل الزعيم محمد مرسى!!
عقب تعويم الجنيه المصرى، تقلصت دخول كل المصريين تقريباً إلى النصف أو أقل، ولكنّ أحداً من الفقراء الجدد أو القدامى لم يفكر لحظة واحدة فى العداء الكامل للنظام لأن الرئيس يقدم لهم بالفعل إنجازات حقيقية، ويبذل جهوداً فائقة فى إعادة بناء الدولة وحمايتها من الإرهاب الداخلى والخارجى ويفتح كل يوم آفاقاً جديدة لنهضة شاملة.
ظروف الدولة عقب عقود التخلف وسنوات الخراب لم تكن تسمح للسيسى أو غيره بتحقيق التنمية الشعبية الشاملة، واختار الرئيس الحل الوسط حين استحدث فكرة مؤتمرات الشباب، وبدأ فى صناعة جيل جديد من البشر بعيداً عن عموم الشعب المصرى الكريم الذى أفسدته عقود الانفتاح والخصخصة وسياسات التخلف الشامل فى كل شئون الحياة، ثم استحدث أيضاً المساكن الآدمية التى تحل محل العشوائيات، واستحدث معها منافذ توزيع المواد التموينية والغذائية بأسعار معقولة، بدلاً من سعار وأسعار السادة التجار، ويحاول قبل هذا وذاك القضاء على الفساد أو محاصرته قدر الإمكان.
لا يمكنك مناقشة «السيسى» فى ثلاث: الأمن الداخلى، والحرب ضد الإرهاب، وإعادة بناء الدولة. ويمكنك مناقشته فى ثلاث: التعليم، والضرائب التصاعدية، وفوضى الشارع المصرى، ثم عليك أن تصمت تماماً فى قضية الديمقراطية، لأنها شأنك أنت وليست شأن الحاكم. عليك أولاً أن تكون ديمقراطياً على المستوى الشخصى، تتسامح مع صاحب الرأى الآخر حتى لو كان ابنك أو زوجتك أو أحد مرؤوسيك، وتضحى بجزء من وقتك لصالح العمل العام، وتقرأ وتفهم وتحاول الإحاطة بأى موضوع قبل أن تدلى برأيك فيه، وتتخلص من البذاءة والانخراط فى أى لون من ألوان الفساد. لو التزم نصف المصريين فقط بهذه الخصال، فسوف تتحول مصر إلى وطن ديمقراطى محترم، حتى لو حكمها هتلر أو الحجاج بن يوسف الثقفى!