ليه تدفع أكتر ما دام ممكن تدفع أقل؟ قطاع لا بأس به من المصريين يتخذون من هذا السؤال شعاراً لهم، منهم طلاب مدارس، وفلاحون فى حقول، وعمال فى مصانع، وموظفون فى مؤسسات، ورجال أعمال فى مشروعات، ومسئولون كبار فى بيوت الحكم. الكل يسأل نفسه هذا السؤال الاستنكارى، عندما يجد نفسه مطالباً بحمل أعباء، فى حين أن بإمكانه التهرب منها أو التعامل معها بأسلوب «كلفِت وعيش» دون أن يؤثر ذلك على حجم ما يحصِّله. فمن يشتغل مثله مثل الكسول، ومن يتحمل المسئولية لا يأخذ نيشاناً يُحرم منه المهمل، الكل يتساوى فى الآخر، المهم أن تكسب كثيراً وتعمل قليلاً.
يضحك أبناؤنا هذه الأيام كثيراً عندما تطلب منهم أن يهتموا بالمذاكرة، فتجد «العيل» يقول لك، لماذا أجهد نفسى فى فهم المقرر من كتاب المدرسة وعندى الكتاب الخارجى؟ ولماذا أذاكر من الكتاب الخارجى وعندى الملخصات؟ ولماذا أذاكر من الملخصات أصلاً وعندى المدرس الخصوصى يفهّمنى و«يفطّمنى» على الطريقة التى يمكن أن أجيب بها فى الامتحان؟ وفى النهاية يقول لك: ثم لماذا أفعل كل ذلك وأمامى أن أغش فى الامتحان.. وذاكر تنجح، غش تجيب مجموع! بعض الفلاحين يتساءلون أيضاً لماذا نزرع ونقلع ونقلب الأرض تحت حر الشمس، فى حين أن بإمكاننا أن نجرفها ونبنى فوقها البيوت والعمائر، ونبيع الشقة بالشىء الفلانى؟ ولا مانع من أن نعمل بعد ذلك بوابين للعمارة التى بعناها، كذلك العامل فى مصنعه، والموظف فى مؤسسته يسأل: لماذا أجهد نفسى فى العمل أو محاولة زيادة رزقى، وبإمكانى أن أحيا -مثل الدولة- على المعونات الخارجية من الأقارب وأهل الخير!
وتجد أيضاً الكثير من رجال الأعمال يؤثرون الاستثمار فى المشروعات السهلة اللذيذة التى تدر أرباحاً كبيرة وسريعة، فما الذى يدعوهم إلى الاستثمار فى مشروعات إنتاجية تحقق المفهوم الحقيقى للاستثمار وأمامهم المشروعات الاستهلاكية، نظام «عبِّى وبيع»؟ أما المسئولون فحدث عنهم ولا حرج، فالكثير منهم يرفع شعار «طرِّى على المواطن بكلمتين حلوين»، كلما ثار أو هاج عليك وطالبك بحقوق، أو «قطّر» له ببعض المكتسبات حتى يسكت عنك، المهم ألا تجهد نفسك فى عمل، من أين ستأتى بالوقت الذى تعمل فيه على حل مشاكل الناس، وأنت مرتبط بمؤتمرات واجتماعات وقعدات وسهرات ولقاءات تليفزيونية؟ وكله فى النهاية يصب فى مصلحة المواطن العزيز. وليته يرضى! فهو لا يكف عن الصراخ والشكوى، وينسى أن المسئول عن حل مشاكله من نفس الطينة، أو بالتعبير المصرى «الطينة من العجينة». ليه تدفع أكتر ما دام ممكن تدفع أقل، شعار ترسخ عبر الأعوام الثلاثين المنصرمة، ولا إصلاح دون بيعه لأقرب تاجر «روبابيكيا»!