آخر مكان يمكن أن تسمع فيه خطاباً «يسفّه المثقفين»، ويتهمهم بالعمل على «تقويض الدولة» هو «جامعة».. وما لا يمكن تصوره أن ينطلق من أى «جامعة» فى العالم تحذير ساخر من «التفكير» و«المعرفة»، خالعاً عليهما وصف «الفذلكة والفلسفة».. لكن هذا ما جرى فى واحدة من «الجامعات» الموجودة فى مصر، فى احتفالها بمرور عشر سنوات على إنشائها.. الحقيقة أننى لم أستوعب بالضبط «المراد» فى خطاب رئيس مجلس أمناء هذه الجامعة إلى طلبة الجامعة، حين طالبهم بالعمل، وألا يهدموا الدولة بـ«الفذلكة والفلسفة»، مؤكداً أن مصر فى معركة وأخطر ما تواجهه الآن هم «المثقفين»! طيب.. ليلهمنا الله الصبر والحلم فى مفتتح الكلام.. إن كان من وجهة نظر السيد رئيس مجلس أمناء هذه الجامعة أن «المثقفين» هم أخطر ما تواجههم مصر.. فما معنى «الثقافة» التى يقصدها؟ ومن هم هؤلاء «المثقفين» الذين يخشى من خطرهم على مصر؟ هل هم أصحاب الصور النمطية الذين نراهم فى «مساخر» يتكلمون بغير ما يفهم الناس؟ وما هى «الفذلكة والفلسفة» التى يراها شراً مبيناً؟ هل قصد «أنواعاً من المعرفة» تحث على «التفكير»؟ أوليس المؤسسة التى يترأس مجلس أمنائها أحد الأجنحة التى من المفروض أنها تنتج «معرفة»، وهذه المعرفة هى جزء من الثقافة أو هى تتماس والثقافة؟ كيف يستقيم لبلد يتطلع إلى مستقبل قائم على «العلم» و«المعرفة» أن يتصدر خطاب رئيس مجلس أمناء «جامعة» بها رؤية تضع المثقفين فى «عنبر الخطرين»؟ الأساتذة، فى الجامعة التى يترأسها هذا السيد، تحت أى فصيل يدرجهم هذا السيد؟ والسادة زملاؤه فى المجلس، الحاصلون على درجة الدكتوراه فى العلوم السياسية والاقتصاد والهندسة وإدارة الأعمال، أو أو.. فى أى خانة يضعهم؟ كيف تكون أولى رسائله إلى شباب على أعتاب الحياة، هى بث «كراهية الثقافة» لأنها تقوض الوطن، والتخويف من المثقفين لأنهم أخطر ما يهدد مصر؟ ما الذى تنتظره من شاب سوف يرى فى محفوظ والحكيم والشرقاوى وجمال حمدان وحسين فوزى وزكى نجيب محمود وصلاح عبدالصبور وغيرهم «آباء» لهؤلاء الذين يهددون الوطن؟! ما هو معيار «القيمة» و«الوطنية» الذى يقيس عليه أو به هذا السيد؟ وأعود لأسأل هذا السيد: ما هى الثقافة يا سيدى؟ معمار جامعتك: ثقافة.. الاقتصاد، أم كلثوم: ثقافة.. ثقافة.. نجيل حدائق قصرك: ثقافة، استشراف مستقبل الوطن: ثقافة.. العسكرية: ثقافة.. الشعر والموسيقى والنحت والرواية.. وشائج نسيج، وطرز وألوان «السجاد» الأصيل: ثقافة! أما هؤلاء «الخطرين» الذين تخيف بهم الشباب وتتهمهم بتقويض مصر فهم سلسال طويل.. قادم من أبعد مما يمكن أن تدرك.. من أول «الفلاح» الذى امتلك الخبرة والحنكة، إلى «كاهن المعبد» و«عازفة الهارب» والكاتب الجالس القرفصاء وراصد التقويم.. الذى يمكن أن يقوض مصر يا سيدى هو «الجهل» وليس الثقافة.. لم تكن المعرفة أبداً إلا نوراً يستشرف.. ويمهد ويأخذ بالأيدى.. والأخطر على مصر ليس «المثقفين»، بل الأخطر هو الجعجعة بغير علم.. وإطلاق «سلوجان» أو شعار لم يمر بمفرزة العقل والتعقل.. الأخطر على الوطن هو اختزال الرؤية فى «خيط» واحد.. النسيج لا ينتجه خيط واحد مهما كانت قيمته.. النسيج كى يصبح نسيجاً تضفره مجموعة خيوط، واقتصار الرؤية على أن الأرقام وحدها أو أن فرعاً معرفياً وحيداً يشد أزر المجتمع نظرية ثبت فشلها وعشنا انهيارها.. على قدر تواضع معرفتى، فقد عشت جل عمرى فى بيت مثقف، بيت ينز معرفة ولا يملك ربه إلا الكتب والموسيقى واللوحات وكل وسائط المعرفة، والإبداع.. وتماست حياتى والثقافة والمثقفين.. وأغدق الله علىّ ومنحنى فرص الزيارة والاحتكاك بجامعات كولومبيا وبوسطن ولندن سكول ونيويورك وشيكاغو وجامعات فى فرنسا وبلجيكا وحتى الصين والمكسيك.. ولم أسمع أو أقرأ عن بلد فى العالم يمكن أن يخرج من جامعاته خطاب يؤجج ويحرض ويسخر من الثقافة، ويجعل من المثقفين «عنبراً للخطرين» على الوطن.. إلا ما قرأته على لسان رئيس مجلس أمناء جامعة فى مصر.. «مصر» الوطن الذى كانت هبته الرئيسية والوحيدة للعالم هى المعرفة والثقافة، وهى أمر لو تدركون: عظيم.