كنت أحب النظر إلى وجهها.. مهما كان الأمر أحس بالأمان.. كانت تمنحنى قوة دون أن تتعمد أو تتكلم، مجرد نظرة منها أحس بأن كل شىء سوف يكون على ما يرام، حتى حين تغضب منى لسبب أو لآخر، كان وجهها «مصالحنى» دوماً.. كان يكفى أن أضع رأسى فى «حجرها» لأغط فى نوم عميق.. كثيراً ما كنت أفعلها.. أوصل الأولاد إلى المدرسة.. أقطع جزءاً من طريقى إلى العمل، ثم فجأة أستدير إلى الخلف، أدق جرس الباب.. أرهف السمع لخطوها: يندفع صوتها ما إن ترانى: «الحبيبة».. تسأل: فِطرتى، تلاقيك ولا فِطرتى ولا حاجة.. فى أوقات تستقرئ وجهى، لا تسأل، تستشرف ضيقاً، أجلس إلى جوارها على الكنبة، وهى تقرأ الجرنان، تخلع النظارة، تمعن النظر، ثم تقترح أن أمد رجلى وأنام.. يحدث بالفعل أن أنام، أحس بها وهى تفرش فوقى غطاءً، أنام، كما لم أنم.. أصحو على «تربيتة».. كانت تحتفظ بأرشيف لكل ما أنشر.. وتعلق مزهوة بأن طنط فلانة كلمتها، وعم فلان.. وفعل الزمن فعلته. رحل أبى.. ظلت ظاهرياً صامدة، وأيضاً صامتة، اختفت المكاحل وأحمر الشفاه.
أخذ الوهن طريقه إليها تدريجياً.. خاصمت «المطبخ».. غطت ماكينة الخياطة ورفعت الفضيات من فوق البوفيهات.. لفّتها مع طقم فضيات، وأصرت على أن آخذها إلى بيتى.. توارت الروائح والألوان.. اكتفت بلقيمات من الأجبان والزبادى.. ظلت أروابها الشفتشى حبيسة دولاب.. كفّت عن صبغ شعرها.. رويداً رويداً ضمر الجسد المختال الذى لم يعد يغطيه إلا لون واحد: الأسود.. عاندت سنوات: «ما سيبش بيتى»، واختصرت البيت فى حجرة نوم لا تفارقها.. وحده «الغيطانى» استطاع أن يروض عنادها بحياء وطيبة صعيدية.. استقرت فى بيت الغيطانى ولم تقبل إلا تحت إلحاح منه.. غيّر هو سكننا ليفرد لها حجرة مستقلة، حملت إليها حجرة نومها كاملة وصناديق صور وساعة أبى، «وصورة» بعينها لها، بثوب الفرح وأبى ببدلة وطربوش.. وأنا بينهما! لم تكن صورة يوم الزفاف، لكنها بعد الزواج بسنوات ليست قليلة.. فى حديقة بيت ريفى لواحدة من خالاتها، كانت تقاربها فى السن، وكانت وزوجها من أقرب الناس لهما.. لأمى وأبى.. فى هذا البيت كانت «فراندة» كبيرة تفرش بعد العصر فى انتظار الأقارب، لجلسة تنقسم بعد دقائق.. يترك الرجال المكان، إلى بهو مجاور، مكتفين باستقبال ضحكات الزوجات المجلجلة.. لم يكن مسموحاً لنا، نحن الصغار، إلا بالسلام والمغادرة إلى حجرات الداخل.. نستمتع بأكل حبات ثمر «العناب» والبلح والعنب البناتى.. كان زوج الخالة يهوى «الياسمين» يزرعه فى كل محيط البيت الملاصق، تاركاً المساحات للنخيل والعنب، حتى إذا ما حانت ساعة ما بعد صلاة العصر، راح يجمعه قبل أن يتفتح، ويضم كل بضع زهور منه، وهى مغمضة، فى صحبة صغيرة، ويهدى كل واحد وواحدة «صحبة» من زهور الياسمين التى، عجباً، تكون قد تفتحت، وفاحت رائحتها.. كن، السيدات، يضعن الياسمين فى صدورهن... يبدو أن الصورة كانت واحدة من تجليات سعادة تلك الأيام.. صورة، على خفتها، اختزنت صفاءً وبالاً خالياً وحلو الأوقات.. كان «الغيطانى» يناديها «بماما» وتلك مرتبة لو تعلمون، جليلة..
كيف تبادلنا الأدوار.. أحممها.. أحمل وجهها بين يدى، علّنى أنتزع ضحكة «قمر.. والله قمر» تكتفى بابتسامة ودعاء.. صرت أحسها ابنتى.. أضمها أكثر وأكثر تستسلم.. كيف صارت تتكور بين ذراعى.. كيف صرتُ «الحضن».. أصفف لها شعرها.. ما عاد يتهدل بأسوده الداكن.. ولا عادت العيون السود مكحلة.. شردت النظرة.
حتى غابت..