فى أحد عصور كرة القدم المصرية واجه الإعلام الرياضى أزمة انحياز المعلقين للأندية التى ينتمون إليها، خاصة فى مباريات القمة بين الأهلى والزمالك، ففى ذلك الحين كان الكابتن محمد لطيف، أشهر المعلقين، ينتمى إلى نادى الزمالك، والكابتن علاء الحامولى زملكاوى مثله، والكابتن حسين مدكور أهلاوى، والأستاذ على زيوار أهلاوى (إلخ). حاول مسئولو الإذاعة والتليفزيون البحث عن معلقين لا ينتمون إلى الأهلى أو الزمالك حتى لا يتهمهم أحد بالانحياز إلى فريق من الفريقين فى أى مباراة تجمعهما، وأسفرت عمليات البحث عن اختيار الكابتن إبراهيم الجوينى، ابن النادى الأولمبى السكندرى، ليكون المعلق المحايد المتخصص فى كل مباريات القمة بين الأحمر والأبيض.
حقق إبراهيم الجوينى نجاحاً فائقاً فى التعليق على مباريات الأهلى والزمالك التى منحه الإعلام المصرى الرسمى شرف التخصص فيها، ولم يكتفِ الرجل بالحياد الكامل بين الطرفين، ولكنه ابتعد أيضاً عن أى انفعالات أو آراء أو أى تدخل شخصى فى وصف المباراة، ولولا خشيته من الاستبعاد لكان قد صمت تماماً وقال للمشاهدين مع بداية المباراة إن «الصورة قدامكم أهيه»، ثم اكتفى بالمشاهدة مثلهم!!
لم يكن الكابتن إبراهيم الجوينى يتحدث أثناء هذه المباريات عن خطط اللعب لأنها من شأن المدير الفنى، ولم يكن يتحدث عن مستويات اللاعبين لأنها من مسئوليات النقد الرياضى، ولم يكن يتحدث عن حالة الطقس لأنها تخص هيئة الأرصاد الجوية، ولم يكن يتحدث عن الجمهور حتى لا يتورط فى إغضاب أى متفرج أهلاوى أو زملكاوى، والأهم من كل هذا أن الكابتن إبراهيم الجوينى كان يتعامل مع حكام المباراة وكأنهم ملائكة يستحيل وقوعهم فى الخطأ، فإذا احتسب الحكم هدفاً من تسلل واضح يقول «الجوينى» إن «الحكم شايف أكتر»، وإذا احتسب ضربة جزاء دون أدنى مبرر يقول «الجوينى» إن «الحكم قريب من اللعبة وشايف كل حاجة»، وإذا تعرض لاعب للقتل فى منطقة الجزاء ولم يحتسب الحكم شيئاً يقول المعلق المحايد إن «المهاجم مات قضاء وقدراً، والحكم قريب وشايف أحسن مننا»!!
الإعلام السياسى يختلف قليلاً عن نظيره الرياضى، القلائل فقط يجيدون أداء دور الكابتن إبراهيم الجوينى، ففى جريدة «الأخبار» ظل أحد كبار الكتّاب لأعوام طويلة يكتب يوميات أسبوعية لا تحتوى على أى شىء سوى خواطر وأحاديث الشيخ الشعراوى، ويكتفى صاحب اليوميات بكتابة اسمه ووضع صورته على المساحة الضخمة التى لا يكتب فيها حرفاً واحداً سوى جملة «نواصل الأسبوع المقبل رحلتنا مع خواطر الإمام الشيخ محمد متولى الشعراوى»!! وفى «الأخبار» أيضاً قضى كاتب كبير عمره كله يكتب عن شئون روسيا وأمريكا وأستراليا والسنغال (إلخ) دون أن يتطرق بحرف واحد إلى الشأن الداخلى المصرى أو العربى، ثم تولى هذا الكاتب رئاسة تحرير جريدة «الأهالى» الحزبية اليسارية المعارضة، واستمر كما كان فى الصحيفة القومية لا يكتب كلمة واحدة عن الأوضاع الداخلية، ونظراً لتفوقه الشديد فى تجنب وجع الدماغ استعانت به صحيفة «الوفد» لكتابة عمود أسبوعى «دايت» كالذى يكتبه فى «الأهالى» و«الأخبار»! وشهدت «الأهالى» أيضاً قبل رئيس تحريرها سالف الذكر صحفياً آخر أكثر حياداً من العميد إبراهيم الجوينى، ففى عهد سيادته تقلصت الجريدة إلى ثمانى صفحات، وتوقفت تقريباً عن المعارضة أو التأييد، ولا نعرف حتى الآن أى كتابات أو آراء للسيد رئيس تحرير الجريدة فى تلك المرحلة، ولا نعرف أيضاً لسيادته أى علاقة بالفكر اليسارى أو بالعمل الصحفى!
الإعلام السياسى المحايد لا يقتصر على الحياد السلبى على شاكلة الكابتن إبراهيم الجوينى، ولكنه يتضمن أيضاً الحياد الإيجابى الذى يمثله السادة رؤساء الصحف القومية والسادة كبار وصغار الكتّاب والصحفيين فى تلك الصحف.
والحياد الإيجابى فى الإعلام السياسى معناه أن تقرأ فكر حاكم البلاد ثم تتمادى فى تأييده إلى أن تصبح ملكياً أكثر من الملك وتتفوق فى نفاق النظام إلى درجة الإصرار على تأييد كل مواقفه وتوجهاته حتى لو تراجع هو نفسه عن بعض هذه المواقف والتوجهات!
المشاركة الاحترافية أو الاجتهادية أو التطوعية فى الإعلام المصرى المكتوب أو المسموع أو المرئى تحتاج إلى قدر كبير من الكياسة والفطنة وقراءة الواقع السياسى والشعبى والمهنى، ففى الإعلام الحكومى عليك أن تذاكر جيداً توجهات النظام والحكومة ولا تغادرها فى أى كلام تقوله أو تكتبه، وإن كنت من هواة المزايدة يمكنك أن تتغنَّى بهذه التوجهات وتصفها بالعبقرية وبأنها تسبق عصرها مثلما كان يقال عن السادات!
وفى الإعلام المستقل عليك إدراك سطوة الإعلانات فلا تعترض على أى شىء ضد مصالح السادة المعلنين والممولين، وعليك إدراك سطوة النظام فلا تقل شيئاً يعكر مزاج هذا النظام، وإن كنت مريضاً بالمعارضة يمكنك الاعتراض على شئون غير سيادية مثل زحام المترو وبطء العمل فى مكاتب الشهر العقارى وجشع التجار وخيبة الأحزاب ومشاكل السكة الحديد والدروس الخصوصية والهجرة غير الشرعية وخيانة اللاعب عبدالله السعيد للقلعة الحمراء والإخفاق المتواصل لكرة القدم فى نادى الزمالك وجدول امتحانات الثانوية العامة (إلخ، إلخ)!
الإعلام الحزبى انتقل إلى رحمة الله تعالى مع فقيدة الشباب ثورة 25 يناير، ولكنه لم يكن على قيد الحياة فى السنوات القليلة التى سبقت الرحيل، ففى حزب التجمع -مثلاً- تخلصت قيادة الحزب قبل ثورة يناير من كل الصحفيين أصحاب الرأى والكفاءة فى جريدة «الأهالى» التى تحولت حالياً إلى جريدة رمزية تعبّر عن حزب افتراضى! وفى الحزب الناصرى قضت الخلافات الشخصية على جريدة «العربى» التى تحولت قبل الثورة إلى جريدتين بنفس الاسم ونفس الشكل وتصدر كل منهما فى نفس اليوم، ثم انتقلت الصحيفتان وحزبهما إلى الرفيق الأعلى فى ظروف غامضة! وفى حزب «الأحرار» توفى الحزب أولاً ثم تبعته الجريدة رغم ازدهارها المفاجئ فى عهد الأستاذ محمود عوض. ولم يتبقَّ حالياً من الإعلام الحزبى سوى جريدة «الوفد» التى تقدم كل يوم أفضل عرض لمواقيت الصلاة فى القاهرة والإسكندرية ودرجات الحرارة الصغرى والكبرى فى شتى المحافظات، فضلاً عن مقالات الأستاذ عباس الطرابيلى والأستاذ سليمان جودة وبعض الأشياء الأخرى!
ضيوف الإعلام المكتوب أو المرئى أو الإذاعى من الهواة والمتطوعين يسهل التخلص منهم حال عدم درايتهم بخريطة المناطق الخضراء والحمراء والرمادية فى هذا المجال. المشكلة فى المحترفين الذين ينبغى أن تفكر كليات الإعلام فى طرق علمية لإعداد الأجيال المقبلة منهم تمنعهم من الوقوع فى أخطاء جسيمة قد يفقدون بسببها وظائفهم أو حريتهم. وأقترح فى هذا الصدد استحداث مادة تحت اسم «جغرافيا إعلامية» فى أقسام الصحافة والإذاعة والتليفزيون، يدرس فيها الطالب مواقع الموضوعات الإعلامية الآمنة، ودرجات الخطورة فى الموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكيفية التعامل مع الشئون السيادية، ومهارة الابتعاد عن حقول الألغام فى شتى جوانب التناول الإعلامى، فضلاً عن آداب الحديث مع أو عن أى صاحب شأن فى هذا البلد.. والبلدان الأخرى!