مقدماً أعلم تماماً أن كتابة السطور التالية أشبه بالدخول إلى حقل ألغام معصوب العينين؛ فمنذ اللحظة التى كلّفها فيها الإعلان الدستورى الصادر يوم 8 يوليو الماضى بتعديل دستور 2012، بدت «لجنة الخمسين» وكأنها اختارت الخضوع لـ«الابتزاز السياسى» -الذى تمارسه بعض التيارات- منهجاً لعملها، وارتضت أن يكون الصوت العالى -ولا غير الصوت العالى- حاسماً لمناقشاتها التى تجريها لصياغة مستقبل الوطن! وإذا كانت إرادة الجماهير التى خرجت فى ثورتين خلال نحو عامين ونصف قد انعقدت على صياغة عقد اجتماعى (دستور جديد) بينها وبين ذلك القادم إلى القصر الجمهورى ونظامه يحدد واجبات وحقوق كل من طرفى ذلك العقد، فإن «لجنة العشرة» التى سبقت أعمالها «لجنة الخمسين» قد راعت ذلك تماماً وأبقت فقط على 28 مادة من بين 236 مادة كان دستور 2012 يضمها، بل ونقلت وجهة نظرها هذه إلى «لجنة الخمسين» بصياغة ديباجة جديدة لتلك التعديلات بما يعنى أنها تقر بأن ما توصلت إليه هو دستور جديد بالفعل.. إلا أن لجنة «الخمسين» أطاحت بكل ذلك خنوعاً وخضوعاً للصوت العالى!
فى أول اجتماع لها لترتيب أسلوب عملها؛ ذكر عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين أنها بصدد إعداد دستور جديد وليس مجرد إجراء تعديلات على دستور 2012 الملىء بـ«العوار والتناقضات»، ولا أحد يدرى حتى هذه اللحظة ما إذا كان ما ذكره موسى كان «بالون اختبار» أم مجرد «زلة لسان» لم تكن مقصودة، ولكن كل ما شاهدته الجماهير هو أن أصواتاً عدة ارتفعت وأصرت على أن يكون عمل اللجنة هو فقط إجراء تعديلات كما نص عليها الإعلان الدستورى (كما ولو كان هذا الإعلان قرآناً منزّلا..!!)، فتراجع رئيس اللجنة وأقر بالنزول على إرادة هذه الأصوات. صحيح أن موسى عاد أخيراً يوم الأربعاء الماضى ليؤكد أن ما سيُطرح على الاستفتاء الجماهيرى هو دستور جديد، إلا أنه بخضوعه فى أول مواجهة كان قد فتح باب التنازلات.
منذ تلك اللحظة دشنت لجنة الخمسين مرحلة «الخضوع للابتزاز السياسى» الذى يهدد بالبطلان ما ستثمره أعمال اللجنة «دستور 2013» خاصة أن اللامعة المستشارة تهانى الجبالى قد أقامت دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية تطالب فيها بالحكم بعدم دستورية دستور 2012، «وبالتالى فإن ما بنى على باطل فهو باطل» إذا جرت دعوة المواطنين للاستفتاء على التعديلات التى أُدخلت على دستور 2012 وليس على دستور جديد!! مرة أخرى تعود «لجنة الخمسين» لتطيح بأعمال «العشرة»؛ إذ كانت الثانية قد أوصت بإطاحة مجلس الشورى الذى تُعد عضويته ورئاسته إرضاء لرموز النظام -أىّ نظام- إذ أعادت «الخمسين» الشورى مجدداً إلى أحكام الدستور خضوعاً لـ«صوت الوفد» الذى اكتسب عُلواً غير مبرر. ذات الأمر تكرر مع المادة 219 فى الدستور السابق؛ إذ رصدت «العشرة» ذلك الخطر الذى تهدد به تلك المادة مدنية الدولة وتحولها إلى دولة دينية «ثيوقراطية» فأسقطتها من المشروع الذى رفعته إلى «الخمسين» إلا أن الأخيرة أعادته إلى الحياة مرة أخرى نزولاً وخضوعاً لتهديدات حزب النور! وإذا كنا جميعاً نستهدف دستوراً يساوى بين جميع المواطنين ولا يفرق بينهم على أساس النوع أو الدين أو المعتقد السياسى؛ فإن «الخمسين» لا تعترف بذلك حيث تبحث حالياً إمكان تخصيص كوتة للمرأة والمسيحيين فى المجالس النيابية، وهو ما يحمل فى طياته ما يمكن تسميته بـ«الخضوع للابتزاز السياسى المبكر»؛ إذ يسعى البعض إلى استثمار جنسه وعقيدته الدينية لتحقيق مكاسب يراها حقاً له على حين أن واقع الأمور يؤكد غير ذلك! هكذا يبدو أن لجنة الخمسين قد كلفت نفسها بأن تكون هى الحامية لكل مظاهر الابتزاز الذى يحلو للبعض ممارسته عليها، وإذا لم تنتبه لذلك تكون قد أصرت على المضىّ قدماً فى استنساخ دستور ينخره العوار!