كتب الكاتب جمال الغيطانى، رحمه الله، مجموعة قصصية بديعة بعنوان «رسالة البصائر فى المصائر»، يحكى فيها عن عدة شخصيات تتبّع حياتهم، شهد بداياتها الاجتماعية العملية، المصاعب والنجاحات، الصعود والهبوط، وما آلت إليه مصائرهم، عندما قرأتها أثرت فىّ لدرجة كبيرة، وأصبحت مثله أتابع الحياة وأثرها على الناس، المسارات والمصائر.
ومن المصائر المدهشة، مصائر الأطفال فى علاقات الانفصال، تدور حولهم معارك طاحنة بين الأم والأب وكأنهم أشياء أو جزء من المتعلقات الشخصية لكل منهما، وليسوا بشراً لهم آراء ومواقف فى الحياة حتماً سيأتى اليوم الذى يعبرون فيه عنها، وأحياناً يكون تعبيراً عنيفاً. مثل بنتين لأم هربت من جحيم زوجها بطلب الطلاق والتنازل عن كل شىء فى مقابل الاحتفاظ بالبنتين، وكان جرحها غائراً وألمها شديداً، لذا لم تُرد أن ترى الزوج أو تسمع صوته، أنفاسه بالنسبة لها كانت تسمم الهواء الذى تتنفسه، ولكى تتجنب أى احتكاك بينهما، ولكى لا تراه ولو بالصدفة، سكنت بعيداً عنه، وتحملت فى سبيل تعليم البنتين وإعاشتهما حياة كريمة ما تنوء عن حمله الجبال، واعتقدت بذلك أنها أغنتهما عن الدنيا. وكانت الصفعة الكبرى لها حينما تقدم خطيب لأحد ابنتيها، وقبل عقد القران اتصلت البنت بأبيها ليحضر ويكون وكيلها أمام عريسها، فلم تُرد أن يعلم عريسها أنها بلا أب. علمت أن ابنتيها ما إن وصلتا إلى سن الإدراك حتى اتصلتا بأبيهما أكثر من مرة، لم تخبرا أمهما، ليس خوفاً منها، وإنما حباً لها ومراعاة لمشاعرها وتقديراً لألمها وتعبها، لكنهما فى النهاية احتاجتا للشعور بأن لديهما أب، وأقامتا فاصلاً نفسياً بين علاقة أمهما بزوج لم تسترح معه وعلاقتهما بأب ربما ليس الأفضل لكن يظل جينياً أباهما.
كادت القصة أن تقضى على الأم بعد أن اكتشفت أنها كانت واهمة، لأكثر من 10 سنوات، أنها تستطيع قطع هذه العلاقة.
قصة أخرى لطفل أُرغم أبوه عنوة على التواصل مع أمه بعد طول قطيعة، فقد انفصل الأب عن الأم، وانتقاماً منها وتأديباً لها أخذ الطفلين (ولد وبنت)، وهى لم تستطع النضال للاحتفاظ بهما، فهى لا تعمل ولا تستطيع الإنفاق ولا طاقة لها بالمحاكم، لا سيما أن رمز العدالة فى محكمة الأسرة أنها ليست فقط عمياء وإنما مشوهة.
حرم الأب ابنيه من أمهما عمداً وهددهما بالويل والثبور وعذاب القبور إن اتصلا بها. تمر الأيام والجميع يعانون لوعة الفراق وألم القهر لتدخل الابنة الجامعة وتتصل بأمها سراً، ويصل الابن للمرحلة الثانوية ويتصل بأمه علناً ويواجه أباه لتشبّ بينهما مواجهات كبيرة ومعارك حادة. ورغم تهديد الأب بعدم الإنفاق عليه إن خرج عن طوعه.. خرج الولد، ولكنه لم يذهب لأمه ليجنبها بطش أبيه، خرج واختفى شهراً لا يعلم أحد أين هو ولا كيف يعيش.
عاد الولد ليقول له: لا أريدك فى حياتى، وسأعيش مع أمى حتى لو لم تنفق علىّ، عاد بجموحه وطموحه ليشجع أخته على التعبير عن مشاعرها والتواصل مع أمها، عاد ليضع الأب أمام أمر واقع هو أن أموال الإنفاق لن تشترى ابناً باراً، بل ابناً مقهوراً، وقد آن الأوان أن يتمرد على قهره، وما إن استقر مع أمه حتى لحقت به أخته، ولم يجد الأب بداً من أن يشترى ابنه وبنته ولا يضيع مستقبلهما، وأنفق عليهما وهما فى بيت أمهما الذى كان محرماً.
فى كل المصائر، ورغم كل الظروف، تنبت للأطفال أجنحة ويطيرون بأسرع مما يستوعب الجميع.