خضنا حرب أكتوبر، ولدينا ثلاثة قادة عظام، كل فى تخصصه، تلك التوليفة هى السبب الأساسى لنجاح الحرب وتحقيق الهدف منها -القائد الأعلى للجيش الرئيس السادات (السياسى) المحنك والعقلية المؤهلة للتفاوض- والقائد العام للجيش الفريق أول أحمد إسماعيل (الإدارى)، الذى يجيد استخدام كل أدواته فى هذا لاستصدار قرارات والقيام بإجراءات منها ما هو تنظيم العمل، ومنها ما هو احترازى- ورئيس الأركان الفريق الشاذلى (العسكرى) الحاذق، الذى يجيد المعارك الميدانية بمهارة ومناورة وانضباط ودقة. تلك العقول الثلاثة كان ينقصها الوفاق والمصارحة لدور كل واحد فيهم، ولكن هذا لم يكن خافياً على من رتّب تلك الثلاثية، وهو الرئيس السادات، والذى كان يرى أن استمرار الموقف المتأجج بين إسماعيل والشاذلى يصب فى مصلحته، وأنه قادر على أن يجعل كلاً منهما يقوم بعمله الذى رسمه هو بدقة دون إخلال، حتى تتم معركة المصير وتحقيق الوجود للجميع، ولأن السادات كانت العقلية السياسية لديه طاغية على العسكرية، فقد كان تخطيطه الذى احتفظ به طوال الوقت ولَم يطلع أحداً عليه سوى المشير إسماعيل مع بداية المعركة، وهو إحراز نصر عسكرى معقول، ثم الانتقال به إلى الساحة السياسية للتفاوض وهذا ما جعله يقول فى اجتماعه الأخير قبل الحرب مع القادة العسكريين كلمته المجازية المشهورة (أريدكم أن تكونوا على الضفة الأخرى للقناة حتى ولو ١٠ سم فقط، حققوا لى هذا، واتركوا الباقى علىّ) وكان «السادات» يريد بهذا شيئين، الأول هو تخفيف العبء المعنوى عن القادة، ليتمكنوا من دفع جنودهم للقتال دون ضغوط لوضع هدف كبير، فلقد جعله السادات هدفاً محدوداً فى متناولهم ويمكنهم بعد ذلك، أن يندفعوا فى القتال بدافع الروح المعنوية العالية لتحقيق الهدف، وهذا حدث فعلياً فى المعركة. الشىء الآخر هو أن «السادات» يعلم عزيمة القادة والجنود القتالية، ولكنه كان يخشى استنفاد السلاح فتضيع النتيجة المرجوة له، وهى التفاوض والحصول على ما يريد بالضغوط والأوراق السياسية ولعلمه أن أمريكا كانت تريد هذا التفاوض دون معارك عسكرية، وأن هذا العرض كان سارياً منذ الرئيس عبدالناصر وتحديداً بعد حرب الاستنزاف عندما وقف المجتمع الدولى بأجمعه على الروح القتالية العالية للجيش المصرى للثأر من نكسة يونيو، وأن هذا الجيش لن يقبل بأرضه فى أحضان الغير مهما كلفه ذلك من وقت وجهد وأرواح، لكن لم يكن فى مقدور «ناصر» أو غيره أن يقنع الجيش بالتفاوض السلمى دون استرداد الكرامة العسكرية المصرية والتى كانت تعبر عنها مقولة ناصر ليطمئن الجيش بأنه سيخوض معركة تحديد مصيره ومستقبله أمام شعبه والمجتمع الدولى عامة وإسرائيل خاصة، فكان قوله الشهير (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة)، تلك المقولة التى استرد بها الجيش عقيدته القتالية باطمئنان لأهمية دوره وتحقيق هدفه وآمال الشعب، ولذا نجد أن «ناصر» كان يقبل وقف إطلاق النار حتى يعيد الجيش التقاط أنفاسه، ولكن لم يكن يقدر على التفاوض بغير القوة، وهذا ما يعلمه جيداً السادات وأراد أن ترد للجيش كرامته وقوته، وفى الوقت نفسه يحافظ عليه ويفاوض بالانتصار الذى أحرزه تلك هى المعارك العسكرية فى كل زمان ومكان تحقيق هدف ليجنى به باقى الأهداف، وشىء آخر لا نغفل عن ذكره للرئيس السادات، وهو أنه لم يكن لديه من الحرفية العسكرية ما يمكّنه أن يغامر دون مشاركة فعلية منه فى اجتياز معركة عسكرية بمراحل متعددة، فسنوات حياته العسكرية محدودة، فكان لديه قصور عسكرى هو يعلمه، ولذلك آثر أن تكون المعركة محدودة، ولا تتطور وتنتقل من موقف لآخر، وهذا هو السبب الأساسى فى عدم تنفيذ الخطة (شامل)، التى كانت تشمل كل خطوات تطوير الهجوم عبر مراحل متتالية، وهو ما ارتكن عليه «الشاذلى» فى هجومه على السادات بأنه لم يطور الهجوم، فأحدث (الثغرة)، لكن شهادات القادة العسكريين أثناء الحرب تقول إنه حتى تطوير الهجوم، فإنه يحمل إما نصراً بلا حدود، أو هزيمة أخرى منكرة، وهو التخوف الذى كان لدى كل من السادات وإسماعيل بعقليتهما السياسية والإدارية، ولكنها لم ترض العقلية العسكرية للشاذلى، والذى بدوره هو الآخر كان يريد اختبار خطته العسكرية كاملة ويقوم بتنفيذها غير آبه بالنتائج السياسية التى ستدخل على ساحة المعركة وتحولها لأهداف دولية لا يقدر حيالها أن يحقق نصراً يأمله، بل النتيجة الأكثر ترجيحاً ستكون التدخل، وهو ما يعنى خسارته المعركة بالكامل، وهو ما جعل «إسماعيل» يقول بمجلس الشعب، وأمام العالم كله: «كنت أعرف جيداً معنى أن تفقد مصر جيشها، إن مصر لا تحتمل نكسة ثانية مثل نكسة يونيو ٦٧، وإذا فقدت مصر جيشها، فعليها الاستسلام لفترة طويلة»، تلك كانت العقلية الإدارية، التى وضّحت الموقف بكل ملابساته، وفضلت الوضع الاحترازى، وسبقه العقل السياسى للسادات، الذى أراد حرباً محدودة يسترد بها قوة ومكانة جيشه، وأيضاً يرد أرضه كاملة لا ينقصها شبر واحد، وتبقى العقلية العسكرية المتصدرة مشهد المعركة من غرفة عمليات الجبهة، وكان منتشياً بإحراز النصر ويريد الاستكمال، وهو كان بعيداً عن النظرة السياسية والإدارية والجوانب الأخرى المتحكمة فى سير الأحداث بالمراقبة عن كثب، ومساعدة العدو الذى يعتبر الحليف الأهم للعدد الأكبر من المجتمع الدولى.