يا حبيبتى يا مصر.. لم يعد لهذه الجملة التى كانت تهز وجدان أجيال ظهور إلا فى المشاهد الكوميدية للأفلام والمسلسلات، حين يرددها أحدهم تعبيراً عن سعادته بما ينهب ويشفط من خير هذا البلد دون أن يحاسبه أحد، فيعلق على ذلك ساخراً: «يا حبيبتى يا مصر»!. أغنية «يا بلادى» للمبدعة شادية واحدة من أشهر الأغانى الوطنية، تتألق إلى جوار أخواتها من الأغنيات التى شدت بها الراحلة، وتغنى بها عبدالحليم وعبدالوهاب وأم كلثوم وطابور لا يعد ولا يحصى من المطربين والمطربات، غنوا لمصر وتغنوا بها.
لا يوجد شعب فى الدنيا غنى لوطنه كما غنى المصريون، فهل يعطى المواطن -أياً كان وضعه أو موقعه ومقامه- هذا البلد بالقدر الذى يغنى له؟. أظن أن شعوباً كثيرة لا تغنى لبلادها كما نغنى، لكنها تعطيها أكثر منا بكثير على كل المستويات. فالغناء بالوطن وللوطن ليس دليلاً على الوطنية، مثله فى ذلك مثل كثرة العبادات أو قلتها لا تدل على تمكن قيم الدين من نفس المتعبد، لأن الأساس دائماً هو السلوك وحسن المعاملة. لو أنك راجعت حوادث الفساد التى ضبطها جهاز الرقابة الإدارية خلال الأسابيع الأخيرة، فستجد أن أحد أبطالها كان عائداً لتوه من عمرة، وأن آخر كان يجهز ورقه وأفراد أسرته لكى يحجوا معاً إلى بيت الله الحرام بعد بضعة أسابيع. الله تعالى يحاسب البشر على النوايا، فهو وحده العليم بها، لكن البشر لهم الظاهر، والظاهر يتجلى فى سلوك الإنسان، وإذا لم يتسق السلوك مع ما يردده اللسان، فنحن أمام حالة «غش»، غش دينى أو غش وطنى. وفى الحالتين فإن الغش يمثل ستاراً لموبقات ولخطايا على مستوى الدين والوطن.
أخشى أن تكون الأحاديث «الملهلبة» عن الوطنية لدى البعض ومحاولتهم إظهار أنفسهم وكأنهم رسل «محبة الوطن» وتمجيد اسمه ورسمه وعلمه، أخشى أن تكون هذه الأحاديث من ذلك النوع الذى كان يردده حسن كامى فى فيلم «سمع هس» للمبدع رأفت الميهى، حسن كامى فى الفيلم كان مطرباً لا يجد غضاضة فى سرقة الفن والإبداع من غيره، بما فى ذلك الأغانى الوطنية، ليتغنى بها بصوته الأوبرالى الجهورى. كان حسن كامى يغنى للوطن حتى يغطى على سرقاته ويقول: «أنا وطنى بنشد وبطنطن.. واتباهى بمجدك يا وطنطن.. على كل الأوطان متسلطن.. رجالتك طول عمرها رجالة.. وتعيش بلادنا منصورة.. حلوة وجميلة وغندورة.. شعبها شغال برجولة.. بيعمر ويخضر بسواعد مفتولة».. كانت كلمة «وطنطن» محل استغراب من مستمعى المطرب بطل الأغنية فسأله البعض عن استخدامها، فأجابهم قائلاً: «بدلّع الوطن»!. القاعدة تقول إن أى شىء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده، وبالبلدى «بيمسخ». وعيب قوى أن نتعامل مع معانٍ قيمة بصورة مبتذلة، الوطن والنشيد والعلم قيم لا يصح أن تتحول إلى سلع تتداول فى أسواق المزايدة السياسية. لا توجد وسيلة لابتذال السلع الغالية أسهل من النزول بها إلى السوق!.