الأمر الطبيعى أن يفسح أى نظام سياسى مساحة تتنفس فيها المعارضة. والمراجع لتاريخ التجربة السياسية فى مصر خلال العقود الخمسة الأخيرة يلاحظ أن جميع الأنظمة السياسية التى حكمت مصر خلالها أفسحت مساحات، تضيق وتتسع، تعبر فيها المعارضة عن نفسها. كما يلاحظ أيضاً أن الأنظمة تبنت هذا التوجه فى مواجهة ظروف ضاغطة أو غير عادية، ما يعنى أنه لم يكن توجهاً أصيلاً لديها.
الرئيس جمال عبدالناصر أعطى مساحات للمعارضة فى ظل الضغوط التى تولدت عن نكسة 1967 التى ارتج لها المجتمع المصرى بعنف. تنوعت الأحاديث خلال السنوات الثلاث من 1967-1970 عن المجتمع المفتوح وحق المعارضة فى التعبير عن نفسها بحرية ودون ملاحقة. واللافت أن المساحة الأكبر للتنفيس ظهرت فى السينما المصرية من خلال مجموعة من الأفلام التى اجتهدت فى نقد بل وفضح الواقع، مثل أفلام «شىء من الخوف» و«ميرامار» و«القضية 67» و«المتمردون» وغيرها. ويبدو أن «عبدالناصر» رأى أن تلتهم السينما -وليس غيرها من أدوات الإعلام والتثقيف- مساحة التنفيس كاملة حتى لا تتسع دوائر نشر الخطاب المعارض للواقع الذى أدى إلى الهزيمة، والنتائج التى خلفتها فى حياة المصريين.
بعد وفاة «عبدالناصر» بدأ «السادات» عصره بأحاديث لا تنتهى عن الديمقراطية، لكن الواقع كان مكبلاً بالقيود. سمح الرئيس الجديد بنقد الثورة بأثر رجعى من خلال كتابات وأعمال سينمائية رأى فيها أداة جيدة للتمهيد للتحول الذى استهدفه بعد تولى الحكم. بعد حرب أكتوبر تبنى «السادات» سياسة الانفتاح الاقتصادى، وكان من الضرورى أن يتوازى معها انفتاح سياسى حتى ولو كان شكلياً، وهو ما حدث عام 1977، بما شهده من أحداث. سمح «السادات» بوجود أحزاب سياسية لأول مرة بعد ثورة 1952، وبدأت الأحزاب تملك صحفاً تنتقد «السادات» وأداء نظامه إلى جوار صحف أخرى إخوانية سمح بوجودها. لم يكن الرئيس حينها يجد غضاضة فى جعل الصحف الحزبية أداة للتنفيس عن المعارضة، كان مقتنعاً بضعف تأثيرها على الشارع، والأهم أن مراكز الثقل الحقيقية على خريطة الإعلام كانت فى قبضة يده، سواء الصحف القومية أو الراديو أو التليفزيون، وانتهى المشهد كما تعلم بحادث المنصة الشهير عام 1981.
تولى «مبارك» الحكم، مستلهماً الكثير من النقاط التى رأى أنها كانت إيجابية فى تجربة السادات، فأفسح المجال للمعارضة من خلال الصحف الحزبية، ثم أضيف إليها بعد ذلك الصحف الخاصة، لكن تحولات أخطر بدأت تطرأ على المشهد العالمى والمحلى خلال العقد الأخير من القرن الماضى وأوائل العقد الأول من القرن الحالى، كان أساسها ثورة المعلومات والاتصالات التى ولَّدت ظاهرة الفضائيات التليفزيونية والإنترنت، وأمام ما أتاحته هذه الوسائل من فرص للمعارضة فى التعبير عن نفسها، لجأ وزير الإعلام حينها «صفوت الشريف» إلى اللعب بمعادلة جديدة تقوم على إفساح مساحة للمعارضة داخل برامج التليفزيون الفضائية. وللإنصاف كان «الشريف» عقلاً إعلامياً ذكياً يعرف كيف يدير منظومة إعلام لصالح نظام حكم يعتقد فيه. الشاهد فى هذه التجارب الثلاث أن تنفيس المعارضة يمنح النظام السياسى حياة أطول ودرجة أعلى من الارتكاز. التجربة تقول إن مساحات أوسع من التنفيس عن المعارضة (الصحفية والتليفزيونية) مكنت «مبارك» من الحكم لمدة 30 سنة.