هناك ظواهر فى الحياة تمتاز بأصالتها، مما يجعلها قادرة على العبور من جيل إلى جيل، ومن زمن إلى زمن. وثمة ظواهر أخرى مصنوعة قد تطفو على السطح لتغطى على غيرها بما تحدثه من صخب فتدوم لبعض الوقت ثم تندثر، فهى تبدو أشبه بالفقاعة التى تنتفخ لبعض الوقت، لكن سرعان ما تنفثئ. تاريخ المصريين، وكذا حاضرهم، حافل بالعديد من النماذج على النوعين من الظواهر الأصلية والمصنوعة.
قبل ثورة يوليو 1952، على سبيل المثال، تفرّد حزب الوفد بأعلى شعبية على الساحة السياسية المصرية، وتوافق أغلبية المصريين على أن هذا الحزب مستودع آمالهم فى التحرّر من الاحتلال وبناء حياة ديمقراطية تستند إلى دستور. فى مواجهة حزب الوفد ظهر العديد من الأحزاب الأخرى المصنوعة، بعضها تم تصنيعه داخل القصر الملكى، وأخرى تم تصنيعها فى ورش الإنجليز. كان على رأس هذه الأحزاب حزب الشعب والاتحاد. كل هذه الأحزاب لم تتمكن من الصمود أمام «الوفد» فى أى انتخابات حقيقية، حتى فى اللحظات التى تراجعت فيها شعبية الوفد، وظهرت حركات الرفض السياسى والاجتماعى، مثل حركة الإخوان ومصر الفتاة والحركة الشيوعية ظلت فكرة «الوفد» التى تعلى من حقوق المواطنة والحكم الديمقراطى والتداول السلمى للسلطة وتؤكد حقيقة أن الدين لله والوطن للجميع أبقى من أى أفكار أخرى بدت مثل الفقاعات فى لحظات تاريخية معينة.
فى الفن كانت هناك منافسات شرسة أيضاً بين مواهب أصيلة وأخرى مصنوعة. خلال السنوات الأولى التى تحققت فيها نجومية عبدالحليم حافظ، ظهر صوت شبيه بصوته لمطرب شاب اسمه «كمال حسنى» تحمس له صحفيون كبار مثل محمد حسنين هيكل وموسى صبرى، وملحنون كبار، وشركات إنتاج سينمائى، ورغم كل ذلك انطفأ نجمه بالسرعة نفسها التى لمع بها. قيل وقتها إن عبدالحليم حافظ حاربه وأجهض حضوره، خوفاً من أن ينافسه. لم تكن المسألة كذلك، لكن حقيقة الأمر أن كمال حسنى كان يقلد الأصل «عبدالحليم». قلد نغماته، لكنه لم يملك إحساس «عبدالحليم» وقدرة صوته على التعبير عن حالة الشجن التى أبهرت مستمعيه ومنحتهم إحساساً بأنه يعكس بصوته الذى يختلط فيه الحنين بالأنين دخائل نفوسهم. مات «عبدالحليم» عام 1977، وعاش من بعده مطربون كانوا يزعمون أنه يحاربهم -من ضمنهم «كمال حسنى»- فماذا فعلوا بعد ذلك؟.. لا شىء!.
يظن البعض أن المال والدعاية قادران على صناعة ظواهر أصيلة تتمتع بالتأثير والديمومة. وتلك قمة التغفيل. حقائق التاريخ تقول إن الظواهر المصنوعة تأخذ وقتها ثم تختفى وتدخل دواليب النسيان. أما الظواهر الأصيلة التى أخذت وقتها فى البناء والنضج عبر التاريخ فتظل الأكثر تأثيراً، حتى لو توارت لبعض الوقت، فسرعان ما تسطع من جديد، على عكس الظواهر المصنوعة التى تدخل حالة «نومة بلا قومة» ريثما ينتهى وقتها ويفرغ مالها. المجتمعات ذات الجذور الحضارية تجيد التفرقة بين الأصيل والمصنوع، وهى لا تفقد قدرتها على التمييز إلا فى حالات الأزمة، حين يتصحر عقلها وتغشى أعينها سحابات المال.