كنت أظن أننا نشيخ ونهرم قبل المدن بآلاف السنين، إلا أن مدينة السادس من أكتوبر قد شاخت وعجّزت وطعنت فى السن، وأصابها الشلل الرعاش قبلى بسنوات. أنا أشد وأقوى من مدينة تهلك وتستهلك وتفنى كل يوم، وعلى وشك الموت بفضل هؤلاء المتكاسلين والمتآمرين وأصحاب المصالح. لو تشكلت لجنة لخراب مدينة ما، لفاز بالمركز الأول مثل هؤلاء.
معاً للمسلسل رقم واحد: هذا طريق يمتد من طريق الواحات إلى أول طريق المحور، بطول يزيد على عشرين كيلومتراً، ويُعتبر هو الطريق الرئيسى بالمدينة وواجهتها. العمل لا يتوقف فى هذا الطريق لإهدار المال العام جهاراً نهاراً عن قصد وسوء نوايا، ما إن تنتهى أعمال رصف (تقبيح) جزء من رصيف الجزيرة الوسطى، حتى يبدأ هدم وتكسير ما كان قائماً منذ شهور، ليتم رصفه مرة أخرى. وما يتم زراعته من أشجار ونخيل ونجيلة، يموت من قلة المياه والرى والإهمال والفوضى والزوغان، ويتم رفعه وقلعه وزراعته من جديد. وهكذا طوال العام، نحن فى هذا الطريق الممتد لعشرين كيلومتراً أو يزيد، بين مشهدين فى غدونا ورواحنا لا ثالث لهما، بناء الرصيف فى يوم وهدمه فى الثانى، وزراعة فى يوم وقلعها وانتزاعها فى اليوم التالى. وأنا أطالب جهاز المدينة بتقديم كشف حساب لمجمل ما تم صرفه على تجميل هذا الطريق (أو تقبيحه) فى الخمس سنوات الماضية. ولو تابعت مداخل ومخارج الطريق الرئيسى هذا فلن تتصور للحظة أن مهندساً قد خططه، أو آخر قد أشرف على تنفيذه، أو ثالثاً قد تسلمه بمحضر تسلم هندسى. أما لو أخذتك إلى كوبرى المشاة المواجه للهايبر، فالأمر جد عجيب، من هذا الفتوة القادر على صعود كل هذا الارتفاع ليعبر الطريق بعد حصاره بسور حديدى كأسوار السجون، أليس فى العالم تجارب متشابهة يمكننا الرجوع إليها، أو الاستعانة بمتخصصين فى هندسة الطرق؟ وقد كانت مدينة جديدة مترامية الأطراف، شاسعة المساحات، وكان من الواجب النظر والدراسة والاعتبار، ونقل تجارب المدن الكبيرة حول العالم حتى لا تضيق على الناس وتصيبها فوضى العشوائية.
المسلسل الثانى: مسلسل رفع القمامة ومخلفات البناء المنتشرة فى أنحاء المدينة، حتى وصلت إلى محيط المسئولين فى الجهاز نفسه، فقبلوها وارتضوا بها، وحاصرتهم فى مكاتبهم، واخترقت المدينة بكاملها، شوارعها الواسعة والضيقة، تلال من القمامة ومخلفات المبانى التى تلقى بها السيارات فى كافة الأماكن، الراقية والمتواضعة على السواء، واحتلت أماكن الخدمات التى لم يتم بناؤها بعد فى «غرب سوميد» وطريق «الواحات» المركز الأول فى احتواء واحتضان المخلفات، وستدفع الدولة الملايين لرفعها يوماً مقبلاً. المضحك فى الأمر أن هؤلاء الذين اعتادوا إلقاء المخلفات، وهم معروفون للعاملين فى الجهاز، هم الذين سيتعاقدون معهم لرفعها، والمبكى أيضاً أنهم سيرفعونها إلى مكان آخر مخالف ويقومون برفعها مرة ثالثة. وهكذا يستمر مسلسل الفساد تحت سمع وبصر المشرفين، ولا فرق عند هؤلاء بين هذه الأماكن بعضها البعض، حتى ألف الناس واعتادوا تلال القمامة، وأصبحت قاسماً مشتركاً للمارة فى الشوارع تزاحمهم الأرصفة وتشاركهم الطريق دون خجل من القائمين على رفعها، ولا يُخجلهم انتشارها، وكأنهم يتساوى عندهم القبح والجمال، هذا جزء، أما الجزء الآخر فى مسلسل الزبالة، فهو هؤلاء الصبية وكبار السن من الرجال والنساء النازحين من القرى للعمل فى رفع القمامة من الشوارع، بواسطة مقاولى الأنفار، الذين تركوا عملهم وتفرغوا للتسول منذ الصباح الباكر، فى منظر مهين ومُخزٍ فى ملاحقتهم السيارات تحت سمع وبصر المشرفين الذين يقتسمون معهم «غلة» اليوم دون عمل.
المسلسل الثالث: مسلسل التوك توك الذى انتشر فى كل الأحياء، الراقى والمتواضع منها، يبرطع دون ضابط أو رابط، يقوده صبية صغار يستخفون بأرواح الناس، وكبار السن المسجلين الذين لا يخلو عملهم من مخالفات شتى. ولا أعرف متى يمنّ الله علينا بحل لتلك المشكلة المستعصية، التى خلقت ثقافة عمل جديدة، فقد سحبت من سوق العمل فنيين وصنايعية تركوا أعمالهم الفنية وورشهم للعمل على التوك توك لسهولة مكسبه وإيراده، وفرصة ذهبية للتحرش وتناول المخدرات.
المسلسل الرابع: احتلال الأرصفة، ولا أعرف كيف تخطت هذه المدينة الحديثة كل أنواع المخالفات سريعاً، وتفوقت على مخالفات المدن الكبيرة والعتيقة، ما لم يكن فساد هؤلاء قد تفوق عليها وتخطاها وفاز عليها، فلم يعد لهذه المدينة من رصيف يُذكر للمارة واحتلته المحلات والكافيهات المنتشرة المرخص منها وغير المرخص، ولم يعد من سبيل أمام المارة سوى مزاحمة السيارات فى نهر الطريق.
المسلسل الخامس: احتلال الكافيهات مواقف السيارات، وهى ظاهرة انتشرت بصورة مزعجة، فقد استولت الكافيهات والمطاعم على الأماكن الخاصة بانتظار السيارات، وأصبحت مصدر رزق للعاطلين والبلطجية. ولا أظن أن هذه الأماكن تغيب عن نظر العاملين بالجهاز، وهى أماكن قريبة من جهاز المدينة، وأتصور أنهم من روادها يأكلون ويشربون ويسهرون، وأهمها سوق السوريين.
هذا بعض من كل. ولو فتحنا الحديث عما أصاب هذه المدينة من فوضى وفساد فلن ينتهى حديث الناس، وليست مدينة السادس إلا مثالاً صارخاً لصور الفساد والإهمال والفوضى والعشوائية، تشاركها كل المدن الجديدة.
أؤكد للسادة المسئولين أن الفساد له من يسنده ويقويه ويشد من أزره، وليس الفساد فقط هو العامل الرئيسى فى هذا الانهيار، بل سوء الاختيار هو الأصل، اختيار قيادات دون خبرة أو رؤية فى إدارة المدن.. أحسنوا الاختيار، فليس فيهم مثال جيد.