حاول المفسرون تقديم رؤية شارحة لرد الملائكة على المولى عز وجل، حين أعلمهم أنه جاعل فى الأرض خليفة «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ». فللإجابة على سؤال: كيف علم الملائكة أن الأرض مهد الفساد وسفك الدماء؟ توجه المؤرخون والمفسرون إلى تكرار حديث «ابن عباس» الذى ذكر فيه أن «أوّل من سكن فى الأرض الجن، فاقتتلوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله تعالى إليهم إبليس فى جند من الملائكة، وهم هذا الحىّ الذين يقال لهم الجن، فقاتلهم إبليس ومَن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلمّا فعل ذلك اغترّ فى نفسه وقال: قد صنعتُ ما لم يصنعه أحد، فاطّلع الله تعالى على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه أحد من الملائكة الذين معه». رد الملائكة يمكن تفسيره بسهولة بالعودة إلى الآية نفسها التى تثبت علم الملائكة بأمور عدة، لكن علمهم بحال لا يرقى إلى علم الخالق، ولا إلى علم المخلوقات الأخرى التى يمنحها الله من علمه. وقد أثبت الخالق هذه الحقيقة عملياً عندما علّم آدم ثم عرضهم على الملائكة. يقول الله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».
استغرقت كتب التراث الإسلامى بدرجة أكبر فى الحديث عن السبب الثانى الذى قدمه القرآن الكريم فى تفسير سر «لعنة إبليس»، والمتعلق برفضه السجود لآدم. يحكى «ابن الأثير» بداية قصة خلق آدم وموقف «إبليس» منه، نقلاً عن «ابن عباس» قائلاً: «وإنما سمّى آدم لأنه خُلق من أديم الأرض»، قال ابن عباس: «أمر الله بتربة آدم فرُفعت، فخلق آدم من طين لازب من حمأ مسنون، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب فخلق منه آدم بيده لئلا يتكبّر إبليس عن السجود له، قال: فمكث أربعين ليلة، وقيل: أربعين سنة، جسداً ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، أى يصوِّت، قال: فهو قول الله تعالى: (من صلصال كالفخار) «الرحمن: 14»، يقول: منتن كالمنفوخ الذى ليس بمصمت، ثم يدخل من فيه فيخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً، ولشىء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علىّ لأعصينك، فكانت الملائكة تمرّ به فتخافه، وكان إبليس أشدّهم منه خوفاً».
تعليق غريب ذكره «ابن عباس» وهو يفسر مسألة خلق آدم من «حمأ مسنون»، ذكر فيه أن السبب فى خلق آدم على هذه الشاكلة «لئلا يتكبر إبليس عن السجود له». ربما قصد ابن عباس من هذا التعليق الإشارة إلى اختلاف مادة خلق آدم (الطين) عن مادة خلق الجان (النار) والملائكة (النور)، واختلاف المادة مع عدم معرفة إبليس بهذا النوع من المخلوقات من قبل كان مدعاة، من وجهة نظر «ابن عباس»، لئلا يتكبر إبليس عن السجود له، لكن ثمة معنى آخر لا يليق يحمله هذا التعليق، هو أن الخالق العظيم كان يحذر إبليس بعد أن شاءت إرادته خلق آدم. هذه العبارات وغيرها تكشف لك حجم تأثر كتاب التراث بالإسرائيليات والرؤى التوراتية فى تفسير مسألة الخلق. فى هذا السياق أيضاً يقع هذا الكلام الذى يرويه عكرمة عن ابن عباس ويقول فيه: «وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله تعالى خلق خلقاً، فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم ناراً فأحرقتهم، ثمّ خلق خلقاً آخر، فقال: إنى خالق بشراً من طين، فاسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله تعالى عليهم ناراً فأحرقتهم، ثمّ خلق هؤلاء الملائكة فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين لم يسجدوا». وهو كلام إن دل على شىء فهو يدل على أن «إبليس» لم يكن وحده الذى رفض السجود لآدم، بل شاركه فى ذلك خلق كثيرون، آمنوا بفكرته. وهو أمر يثير العجب.