خيط رفيع للغاية هو كل ما يفصل بين إقرار واقع نعيشه، حتى لو كان مؤلماً، ودعوة لا تؤدى سوى إلى الإحباط ومزيد من الانكسار.. غير أن الكثيرين ممن يحسبون أنفسهم على المؤسسات الرسمية دائماً يعبّرون بكلماتهم عما يؤدى إلى الحالة الثانية «الإحباط والمزيد من الانكسار»..!
فى مداخلته الهاتفية للبرنامج التليفزيونى «مانشيت القرموطى» قال أحمد خيرى، المتحدث الرسمى باسم وزارة التربية والتعليم، بالحرف الواحد: إن «مصر أصبحت فى المركز الـ148 والأخير على مستوى العالم فى جودة التعليم»، وهو هنا أقر حقيقة مؤلمة للغاية إلا أن ما أضافه بعد ذلك كان أكثر إيلاماً وقسوة، إذ قال: «إحنا فى المركز 148 من 148، وماعندناش حاجة نبكى عليها»!!
من المؤكد أن «خيرى» لم يقصد إحباطنا وزيادة حدة ما نشعر به من انكسار على ما وصل إليه حال التعليم عندنا، بل كان يسعى إلى دعوة المواطنين إلى التخلص من حالة القلق التى تجتاحهم تجاه مستقبل أبنائهم، خاصة بعد إقرار النظام الجديد للتعليم، غير أنه «أساء اختيار كلماته»، إلا أنه سارع ليُصحح ما قاله: «إن نظام التعليم الجديد أنشئ من أجل مصلحة الطلاب»، مطالباً أولياء الأمور بالاطمئنان على أبنائهم مع النظام التعليمى الجديد.
وإذا كان الرئيس السيسى قد أقر ذات مرة «سوء حال التعليم بمصر»، بسؤال استنكارى واضح: «هو إحنا عندنا تعليم؟!».. إلا أنه تعهّد خلال مؤتمر الشباب السادس -الذى يعد الأول فى جمهوريته الثانية، والذى عقد مؤخراً- بأن يكون عام 2019 هو عام التعليم المصرى، والنهوض به، باعتباره الوسيلة الأبقى لرُقى المواطن، وبالتالى المجتمع..
وكشف الرئيس عن أنه جرى تخصيص 20% من المنح الدراسية خارج وداخل مصر لكوادر التعليم لمدة 10 سنوات، وإنشاء هيئة للجودة فى التعليم الفنى، فضلاً عن إنشاء مركز لتدريب المعلمين طبقاً للمعايير الدولية.. كما وجّه بإعداد خطة شاملة لعودة الأنشطة الرياضية والثقافية بالجامعة، والسماح لطلاب المدارس بممارسة الرياضة والثقافة بمراكز الثقافة.
ويأتى تعهد الرئيس فى إطار إعادة بناء المواطن بعد أن انتهت عمليات إعادة تأسيس الدولة بعد «لملمة أشلائها التى ورثها من «جماعة الإخوان الإرهابية»، محدّداً أن هناك 3 أولويات فى الـ4 سنوات القادمة، هى «التعليم والصحة والإصلاح الإدارى».
وحمّل الرئيس المجتمع، إلى جانب الدولة، بالطبع المسئولية فى تحقيق ما نستهدفه، فالإصلاح التعليمى لا تقوم به الحكومة فقط، لكن الحكومة والمجتمع.. ولا بد أن تكون هناك ثقة من المجتمع فى القائم بالإصلاح، فنحن نريد إنساناً مرناً مفكراً ومثقفاً وليس جاهلاً.. إنسان محب للدنيا وللحياة.. نريد أن نأخذ بلدنا لمصاف الدول المتقدمة عن طريق تعليم حقيقى.
وإذا كانت غير قليلة تلك الدراسات التى كشفت عن تدنى المستوى العلمى لطلاب الجامعات، بل لخريجيها فى بعض الأحيان، وكثيرة أيضاً تلك المواقف التى فضحت انهيار المستوى الثقافى لهم، فإن الأمر ليس بهذه الصورة القاتمة، فلا تزال لدينا الفرصة، لأن نقدم لأولادنا تعليماً جيداً وصحيحاً، لكن أمام هذا الأمر تحدٍّ، وهو الاستعداد للتضحية عن طريق بذل الجهد وفهم الأمر للمساعدة فى إنجاح وإصلاح العملية التعليمية عن طريق أن يتغير «مفهوم العقل الجمعى» تجاه الهدف من التعليم من مجرد «رطانة» ببعض التعبيرات الأجنبية الركيكة أو تحصيل درجات فى الامتحان، ليصبح الهدف «الفهم والاستيعاب»، وهو ما يفرض على أولياء الأمور التخلى عن إجبار أبنائهم على الدروس الخصوصية، وهو أمر لن ننجح فيه إلا لو تخلى عنه المجتمع كله..!
قبل عدة سنوات، أظهرت دراسة نشرها الكاتب الراحل لبيب السباعى، مدير تحرير جريدة «الأهرام»، فى صفحة «شباب وتعليم»، التى كان يصدرها ويشرف عليها وقتها، مدى انحطاط وتدنى المستوى الثقافى لطلاب وخريجى الجامعات، بل وافتقارهم لأبسط درجات الذكاء، إذ فشل 48% من أفراد العينة التى أجريت عليهم الدراسة فى تحديد العام الذى قامت فيه ثورة 1919؟!!
الأمر تجاوز تلك الصورة من الأمية الثقافية، لتصل إلى الأمية الأبجدية، حيث يكفى قراءة بعض السطور التى يكتبها بعض طلاب المرحلة الثانوية، بل وخريجو الجامعات فى وسائط «التواصل الاجتماعى»، لتصاب بصدمة عنيفة من حجم تلك الأخطاء الإملائية التى تحفل بها عدة سطور، وينتابك الشك فى إمكان تجاوزهم أى اختبار لـ«محو الأمية»!
فى فترة من الفترات، كانت الدروس الخصوصية مثار استهجان وانتقاد شديدين، سواء من جانب الأهالى أو الطلاب أنفسهم.. وكانت الجامعات المصرية «قبلة» لمعظم بلدان العالم -بما فيها الأوروبية- للتعلم فيها.. وفى مقاله الذى نُشر يوم الأحد الماضى بجريدة «فيتو» تحت عنوان «معارض الجامعات الأجنبية فى مصر»، قال الكاتب الصحفى المبدع أحمد إبراهيم: «دكتور رأفت كامل واصف، من أوائل خريجى كلية العلوم جامعة القاهرة، ومن علماء مصر الأجلاء، عليه رحمة الله، كان قد حكى لى أن امتحاناته وهو طالب كانت تُصحح فى كلية العلوم بجامعة لندن، لأن الدراسة واحدة والامتحانات واحدة أيضاً، ونفس الأمر كان يحدث مع جامعة السوربون فى فرنسا، وكانت الشهادة المصرية معترفاً بها فى أهم وأعرق الجامعات الدولية، ولا تحتاج إلى معادلة..!.. وكانت الجامعات المصرية مقصداً للطلاب من كل دول العالم، ولن أتحدث كثيراً عن أمجاد الماضى، لأنه فى الحاضر ما زالت بعض جامعاتنا يتعلم فيها طلاب أجانب، حيث يوجد حالياً فى جامعة المنصورة 4 آلاف طالب من الدول العربية، وشرق آسيا يدفعون 20 مليون دولار سنوياً للخزانة العامة، وفى جامعة الأزهر 40 ألف طالب من 120 دولة، وأضيف هنا أن «مركز غنيم لأمراض الكلى»، وهو أيضاً فى المنصورة، يضم كل فترة العديد من الأطباء الأجانب، للدراسة والتدريب الطبى، بوصفه مركزاً طبياً دولياً..!
وعودة إلى تلك الصدمة التى فجّرها المتحدث الرسمى باسم وزارة التربية والتعليم بجملته «ليس لدينا شىء لنبكى عليه»، أقول له: «لا يا سيدى.. فلدينا الكثير لنبكى عليه جميعاً»..!