غير صحيح أن المثقف يمكن أن يفقد يوماً وعيه بما يتفاعل حوله من أحداث.. بل يصح أن يقال إن المثقف قد يهرب فى لحظة ما من وعيه بالأشياء والأحداث من حوله.. بعد وفاة جمال عبدالناصر عام 1970 نشر توفيق الحكيم كتاباً يحمل عنوان «عودة الوعى» يقول فيه إن أغلب المثقفين الذين عاصروا حقبة الخمسينات والستينات -فترة حكم الزعيم جمال عبدالناصر- فقدوا وعيهم وفرحوا بالإجراءات التى اتخذها الرئيس حينذاك لتحقيق العدالة الاجتماعية بين المصريين دون أن يلتفتوا أو يكترثوا بجور الزعيم على الحريات العامة، وعدم احترام الحياة الدستورية.
أحياناً ما أشك أن توفيق الحكيم كان صادقاً فيما قاله فى هذا الكتاب. الكتاب فى الأغلب لم يكن «فرصة للمراجعة» قدر ما كان «مساحة للتبشير» لنظام الرئيس «السادات» الذى تبنّى رؤية نقيضة على طول الخط لسياسات «عبدالناصر». تعلم أن «السادات» بدأ حكمه بأحاديث مطولة عن حرية الرأى والتعبير وإغلاق السجون والمعتقلات وإعادة الروح الديمقراطية إلى المشهد السياسى المصرى. وهو حديث يحمل غمزاً واضحاً فى نظام الحكم السابق، ويتضمن إشارة إلى ما تناوله توفيق الحكيم فى كتابه حين تحدّث عن أن المقصود بغياب الوعى عدم الالتفات إلى عملية السحق الممنهج للحرية والديمقراطية فى عصر «عبدالناصر».
الوعى موجود.. فقد فرح توفيق الحكيم وغيره من كبار المفكرين والكُتاب والأدباء المصريين بقيام الثورة ومجموعة المبادئ البراقة التى استندت إليها وقدمت بها نفسها إلى الرأى العام المصرى، ومؤكد أن أغلبهم كان يرقب ما أصاب المشهد المصرى من تحولات، ويسمع عما أصاب بعض مؤسسات الدولة من فساد، ويتابع أخبار المجتمع الجديد الذى أصبح محكوماً بالشللية التى تعتمد على نفاق الكبير وسحق الصغير، ويضحك من قلبه وهو يردد الجملة الشهيرة التى كانت تقفز فى أحاديث المصريين فى الستينات، جملة «الحيطان لها ودان»، ويفهم أن «الآذان» ملقاة فى كل حدب وصوب، وليس فى «الحيطان» وحدها. الخوف من المواجهة فى مثل هذه الأحوال أمر طبيعى وإنسانى، لكن هذا أمر، والاجتهاد فى تبرير الخطأ -خلال حقبة الصعود الناصرى- أمر آخر. بعض هؤلاء الكُتاب كان يبرر إجراءات وسياسات لا يرضى عنها بوعى كامل غير منقوص.
توفيق الحكيم وطه حسين وغيرهما من كبار المفكرين المصريين لم يكونوا فاقدى الوعى، بل كانوا يتعاملون مع ظروف وأجواء، فيها ما يصح قبوله، وفيها ما يجوز رفضه، وقد اختلفت أساليب تعاملهم مع ما يرفضون فى الواقع تبعاً لتركيبتهم الشخصية، فمنهم مَن لجأ إلى التبرير ثم الاعتذار بعد ذلك بفقد الوعى، ومنهم مَن برر ثم صمت بعدها، ومنهم مَن لاذ بالصمت منذ اللحظة الأولى فآثر ألا يعلق بالسلب أو بالإيجاب على ما يحدث، ومنهم من لجأ إلى آليات الإسقاط والمحاكاة، مثل نجيب محفوظ فى حكاوى الفتوات والحرافيش، وصلاح حافظ فى رواية «المتمردون»، وغير ذلك.
فى كل الأحوال تتعقد العلاقة بين المثقف والسلطة عندما يفقد المثقف استقلاليته، ويصبح جزءاً من السلطة، بهدف الانتفاع أو تحقيق مصالح معينة. ومن جانبها تفهم السلطة هذه المعادلة جيداً وتعمل طبقاً لها منذ ذلك العصر الذى كان «المشايخ والسادات» يمثلون النخبة المثقفة فى المجتمع، وحتى عصر «نخبة الأدباء والمفكرين وكبار المتعلمين».