لطالما سيمرر قانون (إهانة الرموز التاريخية) فى البرلمان الموقر، وسيغلق فى وجوهنا الحديث بالطيب أو بالرضا عن تاريخنا المنسوخ والمنحول عشرات المرات، سنترك رموزنا التاريخية نائمة فى حال سبيلها، لا نفتح لها ملفاً أو نغلق لها كتاباً، وندور عكس دوران العالم فى معرفة الحقيقة، وإلا سيواجه الكاتب منا بالحبس أو الغرامة أو بالاثتين معاً، إلا أن النائب عمرو حشمت قد أخطأ فى حق التاريخ العربى، وأظن أنه كان المقصود بهذا القانون، حتى لا نميل على الخلفاء والأمراء والمشايخ والفقهاء، وجاء فى مشروع القانون، وأظنه دون قصد، فى تعريفه بالرمز التاريخى (الرموز والشخصيات التاريخية الواردة فى الكتب، التى تكون جزءاً من تاريخ الدولة، وتشكل الوثائق الرسمية للدولة)، ولو أن هذا التعريف بلا غطاء أو لحاف، وبارد وساقع ويحتاج إلى من يلملمه ويحدده بدلاً من بعثرته وبعطرته، بين رموز تستحق التقدير وغيرها يستحق النقد، وغيرهما يستحق الحرق وليس التجريح فقط، فما رأيك أن هذا التعريف الناقص المبتور ينطبق على جمال عبدالناصر ومحمد مرسى معاً، والشيخ شلتوت وحسن البنا، وطه حسين، إمام التنوير، وسيد قطب، إمام الإرهاب، فكل هؤلاء جزء من تاريخ الدولة ويشكلون جزءاً من وثائقها، ولم يفصل أو يفرق بين الرمز الصالح والرمز الطالح وجعلهما فى وعاء تاريخى وكتاب واحد، إلا أننى رأيت أن أخف الضررين الذى أصابه، وهذا الخطأ المحمود قليلاً للسيد عمرو حشمت أنه قد قصر الرموز فى المشروع المقدم لمجلس النواب على رموزنا المصرية التاريخية فقط، وترك لنا الفقهاء والخلفاء والأمراء والمشايخ، من تاريخنا الظالم كله، فى متناول أيدينا نقلبهم ذات اليمين وذات الشمال لنعرف كم ضللوا وزيفوا تاريخنا كله، من قبل تاريخ الأمويين مروراً بالعباسيين نابشى وحفارى القبور، الباحثين عن جثث أولاد عمومتهم لصلبها على أبواب المدن، حتى تاريخ الوهابية وطالبان والدواعش والسلفية، نرتع ونقول ما نشاء بحقهم، دون خوف أو وجل، من حبس أو غرامة، فلم يشملهم التعريف ولم يحف فيهم أو يتمحك بهم، إلا إذا ألحقهم السادة الأعضاء من التيار الإسلامى بهذا التعريف، ووسعوا لهم الطريق، وأخلوا الساحة عليهم، وفتحوا فى الجلباب القصير فتحة يدخل منها كل هؤلاء، ويكونون تحت مظلته، وداخل جيوبه، وهنا نغلق الأقلام ونجفف الصحف، ونكفى على كل تاريخنا ورموزه الماجور الثقيل، وعلى كتاباتنا الطين، وننام نوماً هادئاً بقية أعمارنا، ولن يكتفوا بذلك فقط بل سيحاكمون كل الكتاب والمفكرين منذ قرون حتى نهاية العالم.
وأتساءل: هل تاريخنا صادق أمين؟ أم منحول ومنسوخ وملفق ومزور ومكتوب ومختلق على هوى الحكام والرؤساء؟ فمن كان يوماً بطلاً وصاحب الضربة الجوية أصبح بين ليلة وضحاها محبوساً بتهم الفساد، ومن كنا نتغنى على مسامعه بقصائد البطولة والفداء، جاءنا اليوم الذى كان سبب نكستنا ووكستنا، ومن كان يوما ملكاً سكيراً عربيداً على موائد القمار، جاءنا بصبح اكتشفوا فيه أنه ولى من أولياء الله الصالحين، لا يسكر ولا يقامر، وكان يعطى ما يعطينا اليوم من جوده ومن كرمه ومن فضله من العطايا والمنح والصدقات وهو جالس وهم وقوف، بل طالب مجلس الشيوخ يوماً بسلفة فرفضوا طلبه، ومصر أصبحت عزبة سهلة المنال والنهب من بعده، هذا القانون يا سيد عمرو يصلح إذا كان التاريخ صادقاً مع رموزه، أميناً فى كتاباته ونسخه ونقله وتدريسه وتعليمه للأجيال، لا يشطبه حاكم ولا يكتبه مزور ومنافق، ولا يتعلمه الطالب يوماً أنه مفخرة، وفى آخر يدرسه أنه عار وبيل، أمة لا يكتب تاريخها بيد الشرفاء والمؤرخين الأمناء، بل يكتبه المنتفعون وأصحاب الهوى والحانات، يحتاج جبراً كل فترة، إلى تقليبه وتدويره وتشميسه وفرزه، حتى لو تغير الرمز وتبدل شكله، وإلا وقفنا عند التزوير على أنه حقيقة، وعند الظالم على أنه المظلوم، وعند الفاسد على أنه الشريف. هذا المشروع بقانون دعوة للتضليل وافتئات على الحقيقة، وحفظ لحقوق المزورين، وصون للمكذوب فى تاريخنا من أئمة الضلال والمضللين. اتركوا رموزنا بيد أيدينا فهذا حقنا أن نعيد تقييمهم، ونرفع الظلم عن المظلومين منهم، ونحبس خلف القضبان من مات منهم وكان يستحق السجن حياً، فتاريخنا برموزه طالما لم يكتبه الأمناء والمؤرخون بحيادية، وكتبت كل فترة على عين حاكمها وحراسه ومنافقيه، لا بد أن نعيد محاسبتهم وتقييمهم ونرفع صورة من لا يستحق منهم، ونعلق صورة من يستحق أن يكون رمزاً حياً للأمة. عندما نضع صور الزعماء والرموز على جدران التاريخ ولا نرفعها يوماً للترميم أو الحفظ فى المخازن ليحل محلها رمز آخر، عندها فقط أصدروا هذا القانون دون تردد.