كان المسلمون أمة واحدة ثم تفرقوا.. فارق كبير بين مفهوم الأمة ومفهوم الجماعة. كلمة الأمة هى الوصف المعتمد فى القرآن الكريم لكل المنضوين تحت لواء الإسلام. وقد وردت فى القرآن الكريم بمعانٍ مختلفة، أبرزها «الجماعة من الناس» كقوله تعالى: «وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ»، وقد تأتى بمعنى الجماعة المتحلقة حول فكرة أو رؤية أو معتقد، كما يتبين من قوله تعالى: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً». وقد نشأت البشرية تحت مظلة فكرة «الأمة»، والدليل على ذلك قوله تعالى: «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا». نخلص من هذا إلى أن كل من يؤمن بالإسلام هو من أمة المسلمين، لأنه ببساطة دخل تحت مظلة نفس الفكرة التى يؤمن بها المجموع.
هذا هو المفهوم الواضح والجلى لمصطلح الأمة فى القرآن الكريم، وهو لا يعبر بحال عن جماعة استثنائية تخرج من رحم هذه الأمة، لتمتاز عليها بميزات معينة، تجعل لها القوامة على باقى المسلمين. وتقديرى أن كل من يعتبر معنى الأمة دالاً على جماعة استثنائية تظهر بين المسلمين، تعسف إلى حد كبير فى فهم الآية القرآنية الكريمة التى تقول: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». فمن تمسكوا بدلالة الآية على فكرة «الجماعة الاستثنائية» التى تخرج من بين المسلمين لتكون قيّمة عليهم، استندوا فى ذلك إلى دلالة كلمة «منكم» على «التبعيض»، بمعنى أن ينهض «بعض» المسلمين بمهمة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، رغم ما أكده بعض المفسرين من أن كلمة «منكم» يصح النظر إليها كـ«حرف زائد»، وأن المعنى المقصود بالآية فلتكونوا أيها المسلمون أمة تتشارك فى ما بينها فى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وفى تقديرى أن المعنى الأخير هو الأرجح، إذ ليس من المنطقى أن تختص جماعة محددة من المسلمين بالمفاهيم الإيمانية التى اشتملت عليها الآية. فكل من آمن برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، مطالب بالقيام بهذه المهام، حتى ينطبق عليه وصف «الفلاح»، كما تنص الآية «وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». وليس من المنطقى أن يكون «المفلحون» من أمة محمد أقلية، لأن أى جماعة -مهما بلغ عددها- هى قطرة فى بحر الأمة. كما أن تفسير الآية بالمنطق الذى تتبناه أدبيات «الإخوان» وغيرها من الجماعات (التى تعتبر نفسها جماعة المسلمين) يتناقض مع الآية القرآنية التى تقول: «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى». إننى أستغرب من شأن من يستدلون على فكرة الجماعة من آية: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ»، كيف يزكون أنفسهم، وما المعايير التى يستندون إليها فى تمييز المنتمين إلى جماعتهم عن غيرهم من المسلمين، فيجعلون لأنفسهم القوامة عليهم؟.
أتصور أن هذا الأمر يحتاج إلى مراجعة، لأن مذهبهم هذا يؤدى إلى تفكيك الأمة، فكل مجموعة يمكن أن تزعم لنفسها الجدارة بالقوامة، وهو ما تكشف عنه الآية التالية لآية «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ» -فى سورة آل عمران- التى تقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ». والتجربة التاريخية للمسلمين تقول إن فكرة الجماعة الممتازة أو المستثناة مثلت المقدمة الطبيعية لتفكك الأمة، لأن انخراط هؤلاء فى جماعة، وانطلاق أولئك إلى جماعة أخرى، يحول الأمة إلى مجموعات متصارعة، تنذر بتمزيقها.