يختلف كتّاب التاريخ فى تحديد موقع السيدة «مارية القبطية» من النبى، وهل كانت زوجة أم أَمة تسرّى بها صلى الله عليه وسلم وأنجب منها. أغلب المؤرخين يذهبون إلى أن «مارية» كانت مجرد «سرية»، وهو أمر يستحق -من وجهة نظرى- نوعاً من المراجعة. فهو يتناقض مع وصف «أهل رحم» الذى خلعه النبى، صلى الله عليه وسلم، على أهل مصر، وعبارة «أهل رحم» تحمل دلالة على «الزواج». ربما كانت علاقة النبى بـ«مارية» فى مبتدئها «علاقة تسرى»، ومن المحتمل أن يكون الأمر قد اختلف بعد أن أنجب منها ولده «إبراهيم» فى نفس العام الذى أهداها إليه صاحب الإسكندرية (سنة 8 هجرية). ومن المعلوم أن زوجات النبى، صلى الله عليه وسلم، كن يغرن من «مارية» كل الغيرة بسبب جمالها، وتعلق النبى بها فى سنواته الأخيرة. وليس ثم دليل على ذلك أكثر من زهد النبى فى أحب زوجاته إلى قلبه السيدة عائشة بنت أبى بكر، عندما دخلت «مارية» حياته صلى الله عليه وسلم.
ولو أنك قرأت تفسير الآية الأولى من سورة التحريم: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ»، فستجد أن هناك اتفاقاً بين المفسرين على أن سبب نزول الآية يتمثل فى ذلك القرار الذى اتخذه النبى بعدم وطء «مارية» إرضاءً لزوجته حفصة بنت عمر. وكانت عائشة رضى الله عنها الأشد غيرة بين نساء النبى من «مارية»، ويذكر «ابن سعد» فى «طبقاته» ما جاء على لسان «عائشة» وقالت فيه: «لما وُلد إبراهيم جاء به رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلىّ فقال: انظرى إلى شبهه بى. فقلت: ما أرى شبهاً، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟، قالت: من سقى ألبان الضأن، أبيض وسمن». ويحمل قول «عائشة»، رضى الله عنها، دلالة صريحة على الغيرة من «مارية» وما امتازت به من ملاحة، بالإضافة إلى إنجاب ولد للنبى، صلى الله عليه وسلم.
توفيت مارية القبطية فى شهر المحرم من عام 16 هجرية، أى عقب وفاة النبى بخمس سنوات. ويصر أغلب المؤرخين على نعتها بـ«القبطية» ولا نستطيع أن نقرر على وجه التحديد هل يعنى هذا النعت ربطاً بعقيدة معينة: «المسيحية»، أم نعتاً قومياً بنسبها إلى القومية القبطية التى أتت منها؟. فى كل الأحوال يحمل الإصرار على هذا النعت دلالة سلبية تتساند مع النظر إلى السيدة كجارية تسرّى بها النبى، وهو إصرار يتناقض جملة وتفصيلاً مع وصف النبى لقبط مصر بأنهم «أهل رحم»، بما يحمله من دلالة على الزواج وليس التسرى. ماتت «مارية» قبل فتح مصر، فى عهد عمر بن الخطاب. ومن اللافت أن «ابن كثير» يذكر أن الخليفة عمر، رضى الله عنه، صلّى عليها «وكان يجمع الناس لشهود جنازتها ودفنت بالبقيع رضى الله عنها وأرضاها». والحديث عن جمع الناس وحشدهم فى جنازة يتصدرها الخليفة أمر يثير الاستغراب، ويطرح تساؤلاً حول موقف مجتمع الجزيرة العربية، بما كان لزوجات النبى الراحل من موقع خاص فيه، من مارية القبطية؟!.