سار مروان بن محمد لا يلوى على شىء ومن خلفه جند بنى العباس يجدّون فى طلبه، كان حرص إبراهيم الإمام أول خلفاء الدولة العباسية على قتله يعادل حرص مروان آخر خلفاء بنى أمية على الحياة. تعب من المسير فأوى إلى ركن يستريح فيه ويلتقط أنفاسه حتى يعاود رحلة الهروب. تدفقت مشاهد حياته أمام عينيه، تذكر مجلسه وهو ملك متوج داخل قصره يشعر أن العالم يتحرك بإشارة من أصبعه، الكل يهفو إلى رضاه، ويرتعب من غضبه. المشاهد تتدفق سريعاً وتصل به إلى اللحظة الأولى التى وجد فيها نفسه مضطراً إلى الهرب، بعد أن انفض الجميع من حوله، وهرولوا إلى عدوه يمارسون معه اللعبة نفسها: لعبة الطاعة لمن يمتلك القوة. تنهد مروان بعمق، ثم قال لنفسه: «لهفى على أيد ما ذُكرت ونعم ما شُكرت ودولة ما نُصرت». سمعه خادمه، ذلك الوحيد الذى بقى معه، ورافقه فى رحلة الهروب وسأله: ما بك؟!. فأجابه مروان متعجباً: «ألا ترى ما نحن فيه؟!». قال له الخادم: يا أمير المؤمنين من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفى حتى يظهر، وأخّر فعل اليوم لغد حل به أكثر من هذا.. فزجره مروان قائلاً: اسكت.. هذا القول والله أشد علىّ من فقد الخلافة.
فى قصص الكبار عبرة ولا شك.. وفى قول الصغار حكمة ولا خلاف. مروان يقدم لنا نموذجاً لإنسان ظن أنه امتلك الدنيا وأصبح مسيطراً على مقدراته، لم يفهم أنه مهما بلغ من درجات القوة فإنه لا يزيد عن ريشة فى مهب رياح المقادير، وأنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً. كبار كثيرون يداخلهم هذا الشعور، فتجدهم يستخفون بالكثير من المخاطر التى تحيط بهم، ويتحركون بشكل يعكس ثقة غير منطقية بالذات وبقدرتهم على السيطرة على الأمور وضرب أى خطر يواجههم فى أى لحظة. يخدعون أنفسهم بوهم القدرة على فعل أى شىء واتخاذ أى قرار، دون التفرقة بين القرارات والأفعال المنطقية التى يصح أن يستوعبها الواقع، والأفعال والقرارات غير المنطقية التى لا يهضمها عقل ولا يقبلها ضمير. يرون عقلهم خير العقول وتفكيرهم أمثل تفكير لذلك تجدهم لا يسمعون لأحد، حتى ولو كان ينصحهم مخلصاً.
هذه التركيبة جديرة بأن تقع فى سلسلة الأخطاء القاتلة التى تحدث عنها خادم مروان بن محمد، وأولها عدم الالتفات إلى القليل من الأمور المزعجة وتركها حتى تتحول إلى أشباح متعملقة قادرة على الفتك، وثانيها الاستخفاف بالصغار بسبب الإحساس بالقدرة على سحقهم فى أى وقت، فيمر الوقت ويكبر الصغير، ويصبح قادراً على المواجهة والفعل، وثالثها عدم الاكتراث بما هو كامن فى القلوب والاكتفاء بالمظاهر الخادعة للواقع الذى يعيش فيه، وتمضى الأيام فإذا بما هو خفى يظهر. أما الخطأ الرابع والأخير فيتمثل فى تأخير فعل اليوم إلى الغد. وهو آفة الآفات.. فالزمن يمضى ولا ينتظر أحداً. تعلم مروان بن محمد الدرس، ولكن بعد فوات الأوان.