الأحداث الفاصلة تفرّق ما قبلها عما بعدها. التاريخ العربى والإسلامى زاخر بهذا النوع من الأحداث التى شكّلت تحولاً مفصلياً فى مسارات الأمة. الخيط الجامع بين هذه الأحداث يتمثل فى الأغلب فى «خيط الدم». حقيقة مؤسفة، لكن الأسف لا يفقدها مصداقيتها أو صلاحيتها لتفسير التحولات الكبرى التى شهدها الواقعان العربى والإسلامى خلال فترات مختلفة من التاريخ.
اغتيال الخليفة الثانى عمر بن الخطاب مثّل محطة فارقة بين دولة الخلافة التى استقرت أوضاعها على مجموعة من الثوابت فى التعامل مع الرعية، والتعامل مع المال، والتعامل مع صحابة النبى، صلى الله عليه وسلم، والدولة التى أوجدها عثمان بن عفان، وارتكن فيها إلى مجموعة من الثوابت الجديدة التى تمثلت فى معاقبة المعارضين من أفراد الرعية (كما حدث مع عبدالله بن مسعود وأبى ذر الغفارى وغيرهما)، وتغول أصحاب المال من التجار وتضخم ثرواتهم، ومنح الصحابة فرصة للانتشار فى البلاد الإسلامية بعد أن حبسهم «عمر» بالمدينة.
اغتيال «عثمان»، وهى تلك الحادثة التى انتهت بها دولته بأركانها وثوابتها الجديدة، مثّل أيضاً حلقة مفصلية فرقت ما قبلها عما بعدها. فقد انتقلت دولة الخلافة الراشدة من مرحلة الاستقرار والوحدة إلى مرحلة الاضطراب والانقسام، فانقسم المسلمون إلى فريقين؛ فريق يطالب بالثأر لـ«عثمان»، وآخر يطالب بدعم على بن أبى طالب، ويصر على مبايعته أولاً قبل البحث فى مسألة الثأر من قتلة «عثمان»، وقامت حروب بين الفريقين كادت أن تستأصل فيها شأفة المسلمين، وتواصل الصراع بين الفريقين طيلة فترة «على».
ثم كان اغتيال «على»، على يد الخارجى عبدالرحمن بن ملجم، نقطة فاصلة بين دولة الخلافة الراشدة على تنوع تجاربها، ودولة الملك العضوض «الوراثى» التى أسسها معاوية بن أبى سفيان وتوارث أبناؤه، ثم أبناء مروان بن الحكم، السلطة من بعده. وقد أعلت الدولة الجديدة من قيم السياسة على حساب قيم الدين، ومعها تم تدشين أول تجربة لإغراق الرعية فى تدبير أمور معيشتها، والانشغال بقضايا جدلية تأخذهم بعيداً عن الاهتمام بأمور الحكم وسيرة أولى الأمر. كما شهدت هذه الدولة تبلور حزبين معارضين كبيرين واجههما الخلفاء الأمويون بشراسة، هما حزب الخوارج وحزب الشيعة.
إنها شجرة الدم التى نبتت فى سقيفة بنى ساعدة بسبب الوقوع فى فخ التدثر بالدين من أجل خدمة أهداف سياسية. فكل قاتل كان يظن أنه يخدم الحق وينتصر للعدل وهو يعمل سيفه أو خنجره فى أحشاء غريمه، كذلك فكر أبولؤلؤة المجوسى وهو يغتال «عمر»، ومحمد بن أبى بكر وفرقة اغتيالاته وهو يقتل «عثمان»، وعبدالرحمن بن ملجم وهو يعمل خنجره فى على بن أبى طالب. وليس معنى ذلك بالطبع أن التاريخ العربى والإسلامى خالٍ من ساعات استقرار وعدل. الواقع يقول إن ذلك كان قائماً فى فترات، لمعت فيها قيم العدل كما يلمع الشهاب بسرعة ثم ينطفئ، ليظل الناس بعده يحلمون بلحظة لمعان جديدة. وما أكثر ما خاب انتظارهم وأقل ما تحقق أملهم. كذلك شاءت الأقدار.