لا أدرى، ولا أعتقد أن أحداً يدرى، ماذا يحدث فى الإعلام المصرى.. فقط شعرنا جميعاً أن القنوات كلها قد تم «ضربها فى الخلاط» مع بعض وخرجت النتيجة كما نرى الآن وكما نحاول أن نفهم.. بعض البرامج تحركت بحالها واسمها وديكورها إلى قنوات أخرى مثل لعبة الكراسى الموسيقية، والبعض الآخر تم تغيير المحطة واستبدال المذيع بمذيع ومذيعة بلا داعٍ.. الموضوعات أصبحت مسطحة شبه تافهة متشابهة.. يتوجه الأغلب إلى الغناء والفن والطبيخ والكبدة والفشة.. ثم يعود المناضل القديم بتوجه غريب ويسب الفن والفنانين ويتهمهم بالسرقة العلنية ويدق على وتر صراع طبقى بين مبيض المحارة وممثلة مشهورة لتأليب فئات الشعب على بعضها البعض.. البعض الآخر يتولى تربية وتهذيب وإصلاح من يخالفهم فى الرأى أو من يخالف توجهاتهم والتى لا أعلم من أين تأتى!!
لا يهم الآن أن أعرف ما يجرى أو ما قد جرى بالفعل.. المهم هو النتيجة التى وصلنا إليها نحن مشاهدى التلفاز والقنوات والتوك شو الذى أصبح نسخاً متشابهة لا يمكن تفرقة مواضيعها إلا بشكل المذيع واسمه وديكور البرنامج.
الرحلة من زمن بدأت عام 2004 فى برنامج توك شو يعتبر معارضاً داخل أروقة مبنى التليفزيون المصرى وفى نفس العام حدثنى رئيس تحرير البرنامج يطلب استضافتى فتحججت بأننى لا أحب حديث زوجات النجوم والفنانين وهل يحبون المكرونة أم المحشى وهل هو عصبى أم هادئ، ولكن فاجأنى رئيس التحرير المحترم بشىء مختلف تماماً.. وقال لى: «إحنا هنناقش معاكى أهم مقالاتك وقد أعددنا الموضوع جيداً».. وذهبت وبالفعل تحدثت عن مقال لى نُشر فى الكواكب فى 2004 بعنوان «أنا بنت الثورة.. والثورة بنت مين؟»، وكان مقالاً شديد اللهجة فى هجومه على ثورة يوليو.. ومنذ هذا اليوم وإلى أن توقف برنامج «البيت بيتك» عام 2010 كنت وكنا جميعاً نتابعه لأنه يعتبر توك شو معارضاً وكنت أنا شخصياً ضيفة على هذا البرنامج عدة مرات وكنت أتحدث بكل صراحة وبلا أى محظورات، وأعود لأقول كان برنامجاً داخل تليفزيون الدولة الذى يحاول الآن الإفاقة من الاحتضار دون جدوى.. ثم جاءت يناير وانهمرت القنوات وسالت على رؤوسنا البرامج من كل فج عميق حتى أغرقتنا وكان الانفتاح فى الكلام والسباب والاتهامات والتأييدات والقوائم السوداء والبيضاء والسبوبة والملايين من قطر وغيرها، وانزوى التليفزيون العربى المصرى، الذى ولد عملاقاً، فى غفلة من الزمان بلا رجعة.. وجاء «مرسى» واحتلت الذقون على كل أطوالها صدارة الشاشات وتسابق السادة الإعلاميون فى التزلف والتملق والحب والطبطبة وواجبات الضيافة إلى أن هلت بشاير 30 يونيو فانقلب ظهر المجن وانبرى الأحبة فى الهجاء ثم السباب وركب الجميع طائرة القوات المسلحة التى رفرفت فوق رؤوس الشعب الصادق الذكى. والحمد لله زالت الغمة ولكن زاغ معها الإعلام يبحث عن هوى الناس فى الشارع حتى لا يضل الطريق.. واستعاد الإعلام بعض التوازن واحتفظ ببعض الاختلاف وإلى ذلك الوقت كانت الفوارق موجودة.. البعض يقف مع الوطن بوعى وعقل والبعض الآخر يمسك بمنتصف العصا والبعض «يضرب ويلاقى ويلاعب»، والبعض هرب إلى تركيا وقطر وأطل علينا من قناة «مكملين» و«الشرق» المولودتين من جوف «الجزيرة» العفن.. وظل الحال هكذا يحمل قدراً ولو ضئيلاً من الاختلاف وبعض الرؤى المعارضة على استحياء والتى تجعل للناس متنفساً ولو ضئيلاً للشكوى من الظروف الطاحنة التى لا يستطيع أحد إنكارها.. ولكن.. بعد الأحداث الأخيرة، والتى ما زلت لا أفهمها، تسطح الإعلام كله تماماً.. اختفى مذيعون ومذيعات على قدر من الجودة والمهنية وجىء بآخرين أقل كثيراً فى كل شىء.. هرب من هرب لقناة أجنبية مؤثراً السلامة واستمر من استمر بنفس الحنجورى القديم والصراخ، حتى أصحاب الكلمة الهادئة العاقلة خفتت أصواتهم إلى حد الهمس العقيم.. وعدنا إلى أيام الإعلام الشمولى الذى يُسبح ويصفق ويهلل ويتشاجر ويتعارض فى كرة القدم فقط.. وابتعد الناس فى الشارع عن الجميع وأعطوا ظهورهم للتليفزيون المصرى والخاص والميديا بحالها، وتوجهوا بالخطى السريعة وبمنتهى النشاط والإقبال على درر الإعلام وتيجانها الغراء.. إلى «محمد ناصر» فى قناة «مكملين» و«هشام عبدالله» فى قناة «الشرق».. وإن كنت عزيزى القارئ لا تصدق فقط اسأل من حولك فى الشوارع أو اجلس عند الحلاق أو على المقاهى فى غير أوقات الكرة ستجد أن هذه الوجوه البشعة تطل عليك من الشاشة بكل وقاحة وإذا لم تصدق أنا أقول إننى صدقت عندما جاءتنى ابنة عزيزة تخبرنى ببساطة أنها بدأت تحب «محمد ناصر»، وعلى فكرة بيتكلم صح والله العظيم!!
عموماً، كنت أتوقع هذه الصدمة وجاءتنى أسرع مما كنت أتصور.. للأسف تسبب من بيده الأمر فى تسليم الشعب المصرى تسليماً مغلفاً بورق السوليفان ومربوطاً بشريط ذهبى رائع، هدية للموتورين من أعداء مصر، والغريب والعجيب أن كل هذا يحدث وأيضاً فى الصحافة الورقية فى نفس الوقت الذى يتحدث فيه الرئيس السيسى عن الوعى وأهمية الوعى عندما وضح الفارق العظيم بين «هشام عشماوى» السفاح و«أحمد المنسى» البطل وكلاهما مصرى وكلاهما ضابط.. ولكن شتان بين وعى.. وغفلة.. وشتان ما بين الطريق إلى الوعى والطريق إلى الغفلة.. لن يكون هناك وعى بالضجيج والترهيب والتكرار والهتاف والعزف على وتر واحد.. لا يمكن أن ينمو الوعى بالرأى الواحد والجملة الواحدة.. بعد إعلام يوليو وإلى 2004 إلى أن جاء «البيت بيتك» رحلة لا يمكن أن تعود إلى الوراء مرة أخرى.