على مدخل مكتبة مصر الجديدة، بدا الأمر وكأن نغمة واحدة تضم الواقفين، أو قل إنهم درجات لون متناسقة. كان الموعد للحفلة الشهرية لفريق من هواة الغناء اسمه «أهل المغنى»، وحفلة الليلة ألحانها لفريد الأطرش. لم أكن أعرف شيئاً عن الطبيعة الخاصة لفرقة «أهل المغنى»، حتى رأيت قبل أسابيع، صورة لأخ عزيز هو الدكتور محمد محيى الدين، الأكاديمى وأستاذ علم الاجتماع. الصورة له، واقفاً على مسرح فى وضع أقرب إلى الغناء، وتحت الصورة كتب أنها جزء من مساهمة له فى حفلة لألحان محمد فوزى. ولما كنت أعتبر محمد فوزى «ترجمان» البهجة، ومعلوماتى أن الدكتور محمد محيى أستاذ علم اجتماع، فقد استفسرت من الدكتور «محيى» عن الصورة التى جمعت الحسنيين!.. قال لى إنه يمارس هواية الغناء مع آخرين، فى فرقة أهل المغنى، وأن الفرقة يقودها مايسترو محترف، وأن التذاكر بالحجز لشدة الإقبال. فى مدخل المكتبة كانت أطياف من الطبقة المتوسطة فى كامل زينتها وألقها، وباتزان.. رجال وسيدات ليس صعباً أن تستشعر الألفة وسطهم، يبدو أنهم تعارفوا وألفوا بعضهم البعض، ففى مدخل المكتبة، وقبيل الدخول إلى المسرح، دوائر مجتمعة، وليست ثنائيات أو أفراداً تتأهب لاقتناص بهجة منتظرة. أناقة دون بذخ وعناية بلا استعراض.. بقايا طبقة متوسطة تمتلك الذوق وتحاول اللحاق بحياة أو نوعية حياة.. تكافح حتى لا تسقط تحت «سنابك خيل» ظروف اقتصادية من ناحية، وانقلابات قيمية من الناحية الأخرى. لم يكن صعباً، على الرغم من كونها مرتى الأولى فى حفل «أهل المغنى» بخصوصيتها، أن أستشعر أنى بين أصدقاء، وأننى جزء ممن يفتشون عن «مس من البهجة».. نحو أربعة وعشرين، رجالاً ونساء، ما بين العشرين ومشارف السبعين، فيهم رجل الأعمال والطبيب وأستاذ الجامعة والموظفة الدولية وربة البيت والطالب، يجمعهم حب الغناء وراء فرقة موسيقية محترفة بقيادة المايسترو «حسام» صاحب الفكرة ومنشئ الفرقة منذ عشر سنوات. عمل فى ألمانيا كعازف للعود ثم عاد إلى مصر، ليعمل فى ساقية الصاوى عازفاً، ثم يطلق فكرته التى منها ولدت «أهل المغنى».. لم تكن ألحان فريد الأطرش وحدها هى الرابط بين «الحضور»، ومن قبلها عبدالحليم ومحمد فوزى، لكنها حالة اصطياد نوع من البهجة المبنية على درجة من التذوق، تذوق لحياة تشحب معالمها، وتكاد أن تنسحب.. تشى وجوه الحضور بالبحث عن «النغمة المتوازنة» المفتقدة بين الطبقة المتوسطة وما يجرى، فلا هى تنتمى لتلك الفئة المستعرضة للثراء، ولا لقاعدة الهرم العريضة بسيولتها الاجتماعية وحدود أنصبتها «الدنيا».. تعيش انكماشاً وتكابد التلاشى.
لـ«أهل المغنى»، التى علمت أن عمرها يقترب من العشر سنوات، ما يشبه التقاليد لحفلاتهم الشهرية، وهى تقاليد تميزها وتنقلها من مجرد حالة التلقى والاستمتاع بالإنصات إلى درجة أعلى من «المشاركة».. ربما تكون «المشاركة»، الشعور بأن لك مجالاً للتعبير، هو ما يستوقفك.. الثقة المبتهجة على وجوه السيدات، محجبات وغير محجبات، رجال تطغى حيويتهم على أرقام العمر، شباب.. برنامج الحفل الشهرى يطلعون على مكوناته، تفصيلاً، يعنى كلمات الألحان المغناة، ليكون التفاعل أكثر اكتمالاً، ثم أغنية ختامية، تطفأ خلالها الأنوار من على خشبة المسرح، لتركز على الجمهور الذى يتحول إلى الغناء.. يصير هو الفاعل والمايسترو ولا ينسى فى الختام أن يحيى نفسه تصفيقاً.. بحثاً عن بهجة مارقة!