هى معركة بالفعل وهى أيضاً ثقيلة.. لم تكن المسألة أبداً، كما يتوهم البعض، تقف عند إعادة علاقات مصر بالدول الأفريقية أو زيادة الزيارات وما فيها من مصافحات بعواطف جياشة ومشاعر طيبة.. لا.. القصة أكبر من ذلك بكثير جداً.. تعالوا معاً لنروى تفاصيلها.. أو بعضها، ولكن يحتاج الأمر إلى جدية وتركيز اعتدنا عليهما من القارئ العزيز.
بعد إعلان النظام الجمهورى فى مصر وتأسيس دولة حديثة وضع خبراء الأمن القومى المصرى، وكتب جمال عبدالناصر نفسه فى أول وثيقة أساسية تصدر عنه، كتيباً صغيراً بعنوان «فلسفة الثورة» سخر منه الإخوان وأتباعهم.. حددوا فيه المجال الحيوى للأمن القومى المصرى وأكدوا أنه يتحرك فى ثلاث دوائر أساسية، هى: الدائرة العربية.. ثم الأفريقية.. ثم الإسلامية التى اتسعت فيما بعد وأصبحت دول عدم الانحياز أو العالم الثالث كله.. وبينما الدول العظمى تعيش أجواء حربها الباردة كانت شعوب الدول النامية إما تسعى للحرية وطرد المستعمر وإما بناء نفسها والحركة نحو نهضة كبيرة.. ولما كان ذلك على حساب دول الاستعمار القديم الذى حاول الاستعمار الجديد أن يحل محله بأدوات جديدة.. فبدلاً من الاستعمار بالجيوش والجنود والدبابة والمدرعة سعوا لتحقيق الهدف نفسه من خلال القروض والديون وحظر التكنولوجيا عن الدول الفقيرة ومنعها من تحويل المواد الخام إلى صناعات أساسية ليستمر نقل هذه الثروات إلى الغرب وتعود إلينا كمنتجات أساسية تعمل على تشغيل العمال فى الغرب وزيادة ثرواتهم على حساب الشعوب الفقيرة.. مصر وقتها قلبت الدنيا تماماً وبدّلت كل المعادلات.. وسعت فعلياً لتأمين أمنها القومى وفق المحددات السابقة.. فشاركت فى تأسيس حركة عدم الانحياز لتشكل البُعد السياسى للتحرر.. ثم ذهبت خطوة أبعد وأكثر خطورة بالنسبة للغرب بالاتجاه لحركة تصنيع طموحة، وهى تعنى بالنسبة للغرب ضربة فى صميم خططه للاستعمار الجديد، وكان التحدى بالنسبة لمصر ليس فقط بناء مصانع للحديد والصلب والقطارات والسيارات وإنما الأخطر نقل أسرار هذه الصناعات من الغرب.. ولعب الاتحاد السوفيتى (روسيا) وقتها دوراً مهماً، إلا أن مصر بإرادتها لعبت بأجهزتها ومخابراتها دوراً آخر، وحصلنا بالفعل على أسرار صناعات مهمة كان من بينها صناعات عسكرية كالطائرة حلوان وصواريخ القاهر والظافر (سخر منها الإخوان وأتباعهم أيضاً على خلاف الواقع الفعلى) ثم -وهنا الخطورة تجارياً بالنسبة للغرب وشركاته العملاقة- الحصول على أسرار صناعة الدواء التى انطلقت فيها مصر بسرعة كبيرة جداً لتؤسس لأهم مناطق صناعتها فى المنطقة، وبعد ذلك وخلاله قادت مصر أفريقيا للحرية وأسست منظمة الوحدة الأفريقية وتركت مقرها وانطلاقها من إثيوبيا؛ دعماً للعلاقات مع مناطق تأمين الأمن القومى المصرى.. هنا نتوقف.. فكل دولة أفريقية تتحرر تسير على النهج المصرى التى استردت ثروتها فى تأميم القناة.. وكل دولة تسير على النهج التحررى المصرى ترفع الأهداف ذاتها.. ومنها أن شعبها أوْلى بثرواته.. وبالتالى يتم ضرب الاستعمار القديم والجديد على السواء فى مقتل..
كان منطقياً أن تكون الدول الأفريقية مع مصر ضد إسرائيل.. إلا أن دولاً عظمى، فضلاً عن إغراءات ضخمة قدمتها لبعض القادة، استغلت أيضاً خلافات بين الثوار فى بعض الدول وساعدت على الانشقاقات ووصول بعضهم إلى السلطة، وكان من أول الشروط إقامة علاقات مع العدو الإسرائيلى.. وهنا نصل إلى معركتنا المقصودة.. إذ من وقتها بدأت الحرب ضد الوجود الإسرائيلى فى أفريقيا التى اعتبرناها مجالاً حيوياً مصرياً شبه خالص.. رغم أن الصراع لم يكن ضد إسرائيل بشكل مباشر وإنما ضد أمريكا ذاتها.. ومرت الأيام وجاء الرئيس السادات ثم حرب أكتوبر وأسهمت منظمة الوحدة الأفريقية فى إلزام الدول الأفريقية -أدبياً على الأقل- بقطع العلاقات مع دولة العدو الإسرائيلى، ليس فقط للحق العربى فى الصراع وإنما لوجود صراع بين «دولة» غير أفريقية ودولة أفريقية!
مرت الأيام إلى مرحلة أخرى بعد معاهدة كامب ديفيد.. وكان شعار الدول الأفريقية وغيرها مثل الصين والهند أنه إذا كانت لمصر نفسها علاقات مع إسرائيل فسيكون منطقياً أن نعيد علاقاتنا معها.. وقد كان.. ومرت سنوات أخرى شهدت إهمالاً كبيراً لعلاقتنا مع دول القارة كان لا يمكن أن تتركه إسرائيل، بل عملت على استغلاله وأن تحل محل مصر فى أغلب المجالات، وهو ما نقوله بكل حسرة وأسى!
مرت سنوات أخرى نتذكرها جميعاً جيداً لأننا عشناها وجاء الرئيس السيسى ليعيد ملفات الأمن القومى المصرى إلى حقها الطبيعى من الاهتمام، وعلى رأسها أفريقيا.. فالرئيس السيسى كشخص لا مصالح له ولا لأسرته فى أى دولة أفريقية، إنما كل الجهد المبذول لمصلحة مصر وشعبها وتعويض ما فاتهم.. لكن الحال الذى يقف فيه الرئيس السيسى ليسترد أفريقيا تعقّد جداً وبات صعباً ومعادلاته تقول:
نجحت إسرائيل أخيراً، وخصوصاً بعد رحيل العقيد القذافى، فى إقامة علاقات جيدة مع أغلب دول القارة بتقديم مساعدات عسكرية وفنية، خصوصاً فى الزراعة، كما تقدم خدمات طبية وصحية وغيرها بلغت حداً غير مسبوق، تمثل فى نقل أربع دول لسفاراتها إلى القدس، وكان ذلك فى السابق غير متخيل، فضلاً عن معاهدات واتفاقيات ثنائية أخطرها الأمنية طبعاً وزيارات متبادلة فردية وجماعية ومؤتمرات كبيرة عن إسرائيل وأفريقيا.. ونتذكر ما كتبناه هنا قبل فترة من أنه عند سقوط الرئيس الإريترى مغشياً عليه من مرض مفاجئ عام 1995 كانت نصيحة السفير الأمريكى هناك هى نقله للعلاج فى إسرائيل!
الأمن القومى لا يحتمل طرفين متعارضين وأمنهما عكس بعضهما، مهما قيل خلاف ذلك.. ومهما وقّعنا اتفاقيات تقول عكس ذلك.. ولذلك فإن كل وجود مصرى يقلق إسرائيل والعكس صحيح.. مصر سريعاً أعطت الضوء الأخضر لشركة المقاولون العرب لتعويض حركة شركة النصر بالستينات، وبالفعل أنجزت مشروعات عملاقة، منها مبنى مجمع الحكومات ومبنى إقامة حاكم إحدى الولايات بنيجيريا وكوبرى رادس وجسر الطويل بتونس الشقيقة ومبنى وزارة المالية بالجزائر الشقيقة ومبنى وزارة الخارجية والبنك المركزى بتشاد ومقر وزارة الدفاع فى رواندا (يؤكد على الثقة فى مصر) والسفارة النرويجية وهيئة البيئة فى أوغندا ومطار الناطور بالمغرب الشقيق والمرسى النهرى بجنوب السودان، وأخيراً سد تنزانيا.. لكن تبقى المعركة صعبة تحتاج إلى الاحتشاد الشعبى خلف القيادة، ولكى يحدث ذلك، يجب أن يفهم الناس أولاً أبعاد ما يجرى، خصوصاً فى ظل إعلام يهتف أكثر من أن يشرح ويكرر دون إضافة!