أن تحارب التشدد والتكفير المنقلبين إرهاباً بالقوى العسكرية فهذا معروف.. وأن تناهض التطرف والفكر المغلوط بالعزل والحجب فهذا يحدث بينما نتكلم.. أما أن تمنع التطرف بالأمل، وتقى المجتمعات شرور التشدد بمبادرات إنسانية، وتقدم على البحث فى شئون المغالاة وأمور الإغراق الدينية عبر وقاية الشباب من التجنيد عبر منصات اجتماعية عنكبوتية، فهذه أمور تداولها المشاركون فى «القمة العالمية للحكومات» فى دبى قبل أيام.
أيام من الجلسات والمناقشات فى كل ما يختص بحكومات الحاضر، وتصوراتها فى المستقبل، وهيمنة التكنولوجيا ومنافستها للعنصر البشرى، والتوازن بين الجنسين، وصعود نجم المهارات فى سوق الوظائف، والسعادة وأثرها على مجتمعات الحاضر والمستقبل.
ولأننا لم نسمع من قبل عن مجتمع يهيمن عليه الفكر المتطرف، أو يلوح فى سمائه المنهج المتشدد، أو ينجذب أبناؤه لفيروسات التكفير والترهيب، وفى الوقت نفسه يتسم بالسعادة ويتصف بالتقدم، فإن جانباً كبيراً من أعمال «القمة العالمية للحكومات» بحث ودقق وناقش أمور التطرف والمتطرفين، لا سيما أن جانباً لا بأس به من نشر الفكرة وتجنيد الكوادر بات عنكبوتياً بامتياز.
امتازت النقاشات بالمعلوماتية والواقعية بعيداً عن الاكتفاء بالتنظير المخاصم للواقع. ومن الواقع تجارب صغيرة لكن مدهشة. محمود وحيد، مصرى يمد يد العون للمشردين من كبار السن فى شوارع القاهرة، يمنحهم دفء سقف يؤويهم وقلوب ترعاهم. معالى العسعوسى، كويتية هاجرت إلى اليمن منذ عام 2007، كرست حياتها، التى كانت وثيرة ومرتاحة فى الكويت، لمساعدة نساء وأطفال اليمن. هشام الذهبى، عراقى وزوجته وهبا حياتهما ليس فقط لمساعدة الأطفال المشردين ومنحهم مكاناً يؤويهم، ولكن اكتشاف مواهبهم الفنية وإطلاقها فى حفلات محلية ودولية عبر «البيت العربى للإبداع». السودانى فارس النور بدأ مبادرته لمحاربة الجوع بين أطفال فى السودان بـ20 «سندوتش» قبل سنوات وصلت 40 مليون وجبة هذا العام.
مبادرات قد تكون فردية، لكنها تصنع الأمل، وصناعة الأمل تقى الإصابة بشرور اليأس الذى يؤدى بالبعض إلى الإصابة بفيروسات الإرهاب وجراثيم التطرف.
جراثيم التطرف الفكرية لا تنبع فقط من جماعة تدعى أنها تتحدث باسم الدين، أو مجموعة تقول إنها مندوبة الله على الأرض، لكنها أيضاً تنتشر وتتوغل عبر شبكات عنكبوتية بالغة التعقيد.. تدبر، وتخطط، وتتوسع، وتجند، وتضلع فى حروب سيبرانية تكلف الدول مليارات وتهدر طاقاتها البشرية بما لا يقدر بثمن. خبير أمن المعلومات رودريجو بيجو يحذر من قدرة مثل هذه الحروب على الاستيلاء على المدن الذكية، وتحويل الساحات العنكبوتية إلى ساحات حرب حقيقية، سواء بالأفكار أو البيانات أو حتى الكلام المعسول.
الكلام المعسول فى مظهره المسموم فى محتواه أداة بالغة القوة. مديرة سياسات محاربة الإرهاب والتطرف فى أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى شركة «فيس بوك» إرين مارى سالتمان حذرت من أن من يزرعون بذور التمييز والتفرقة والتطرف يتميزون بقدرة فائقة على دراسة الهدف وينتقون الكلمات والأفكار والسبل المناسبة للاستقطاب، منوهة بأن الفضاء الرقمى صار ساحة لدعوات الكراهية سواء المتعلقة بالقومية أو العِرق أو المعتقد.
ورغم الحديث عن إنشاء بنية عنكبوتية تحتية لتطويق منصات الإرهاب والتطرف وتجنيد الشباب والصغار كوسيلة لمناهضة التطرف ووأد الإرهاب، إلا أن العالم -لا سيما العربى- فى حاجة إلى ما هو أكثر من ذلك.
الحديث عن مؤشرات السعادة، ومدى شعور المواطن فى دولة ما بالسعادة ليس حديثاً سفسطائياً مبنياً على سعة الخيال أو وفرة المال. لكن السعادة منهج له قواعد ويتمتع بصفات وفيه الكثير من الخطوات التى تتبعها الحكومات، وتساعدها المجتمعات المدنية، وتشد من أزرها المنظمات والمؤسسات الأممية ومعها القطاع الخاص ويؤمن بها المواطنون لتتحقق. والسعادة المقصودة ليست ابتسامة مرسومة على وجوه المواطنين، أو «إيموجى» مطبوعاً على الواجهات واللافتات، لكنها سياسات وإجراءات وخطوات تتخذ وتؤدى إلى شعور المواطنين بالراحة والثقة ومن ثم السعادة، وبالتالى تتقلص احتمالات التجنيد عبر شبكات الإرهاب والانجراف وراء أفكار التشدد والتطرف والكراهية.
الأمين العام المساعد لمبادرات محمد بن راشد آل مكتوم، ورئيس مجلس «دبى لمستقبل العمل الإنسانى»، سعيد العطر، أشار إلى دراسة أجريت فى 16 دولة عربية تفيد بأن 55 فى المائة من الشباب فيها يرى أن المنطقة العربية تسير نحو الأسوأ. فهل هناك بيئة أفضل من تلك للترويج للتطرف وصناعة بيئة حاضنة للكراهية والتخلف؟ البيئة الواحدة القادرة على مناهضة ذلك هى بيئة تنظر إلى المستقبل، وتواجه مشكلاتها بحلول غير تقليدية، وتسخر التكنولوجيا لخدمتها ودفعها نحو المستقبل، فهذه بيئة غير حاضنة للإرهاب.