محمد شاب متفوق فى جميع مراحل حياته التعليمية حتى حصل على بكالوريوس الطب بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، عين معيداً بالكلية وبعد الانتهاء من فترة التجنيد وقضاء ثلاث سنوات عمل قرر الهجرة إلى بريطانيا، وكان قراراً صادماً لوالديه، فالشاب ليس متفوقاً فقط فى التعليم بل أيضاً فى الفن والرياضة والأخلاق، هو نموذج فى كل شىء.
والده يحكى لى الواقعة وهو حزين فلم يبخل على نجله فى الإنفاق حتى وصل إلى أعلى درجة من التعليم والتربية السليمة، وكان يجهزه حتى يكون سنداً له ونافعاً لبلده، وحينما سألته لماذا قرر الهجرة خاصة أنه لا يعانى من مشاكل مادية؟ أجاب: مثل زملائه فكل المتفوقين من دفعته هاجروا بعد أن أنفقت عليهم الدولة الكثير فى التعليم والتدريب، ثم نقدمهم بأيدينا هدية مجانية بدون أى مقابل إلى دول أصبحت كلها عواجيز حتى نجدد شبابها وتظل متفوقة علينا وتصفنا دائماً بالتخلف والإرهاب.
اختبارات كثيرة يخضع لها الشباب من خلال شبكة الإنترنت عبر سكايب، وقبل أن يحصلوا على تأشيرة الهجرة، والحالة التى أتناولها هى نموذج لملايين الشباب خاصة المتفوق، أصبحت الهجرة حلمهم، ويؤكد ذلك ما ذكرته وزيرة الصحة بأن لدينا عجزاً شديداً فى الأطباء، كما أن وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت أنها تلقت أكثر من مليون ومائتى ألف طلب هجرة إليها من الشباب المصرى خلال عام 2018 وهو الأعلى بين دول العالم، وهناك دراسة مؤلمة كانت قد أجرتها جمعية «عصر العلم» بالاشتراك مع أكاديمية البحث العلمى تؤكد أن معظم المبعوثين لاستكمال دراساتهم فى الخارج لا يعودون إلى مصر.. أيضاً المتفوقون من الجامعات يهاجرون بمجرد حصولهم على شهادة التجنيد، كما أن لدينا حالياً 30 ألف طالب يستكملون دراساتهم الجامعية فى أوروبا وأمريكا أمنيات معظمهم الحصول على جنسيات أجنبية وعدم العودة. العقول والنوابغ المصرية المهاجرة للخارج غالباً ما تستقر هناك وتحصل على الجنسية ولا تعود إلا فى أرذل العمر أو للدفن فى مقابرنا.
الدولة فى الفترة الأخيرة تولى علماء مصر فى الخارج أهمية كبيرة، وتحاول من خلال وزارة الهجرة أن تستقطبهم وتستفيد منهم وتنظم لهم مؤتمرات شبه دورية لربطهم بمصر، فهل معقول أنه فى الوقت الذى تسعى فيه الدولة لجذب بعض علمائنا من الخارج لأيام قليلة ثم نفرط طول العمر فى الآلاف من خيرة شبابنا المتميز (كريمة الكريمة) ونقدمهم للغرب مثل الثمرة اليافعة حتى يقطفها ويأكلها؟
استمرار نزيف العقول سوف يُفرغ مؤسساتنا من الكفاءات ويجب معرفة لماذا أصبحت الهجرة حلم الشباب، خاصة المتفوقين؟ ولماذا بعض الآباء حالياً يشجعون أبناءهم على الهجرة؟ وهل المشكلة فى الدولة نفسها التى لا تعرف كيف تستفيد من نوابغها؟ أم فى القيادات الضعيفة التى تقتل المبدعين تحتها وتستبعدهم حفاظاً على كراسيها؟ أم هى أنانية وضعف انتماء لدى الشباب أنفسهم فى السعى وراء مصلحتهم فقط دون اعتبار لمصلحة البلد؟
لا توجد دولة فى العالم تفرط فى نوابغها وندرة عقولها بهذه السهولة وبدون أى مقابل بعد أن تعبت فى تعليمهم وتربيتهم، فالموضوع خطير ويعتبر قضية أمن قومى، ويجب أن تتحرك كل الأجهزة قبل فوات الأوان ويصبح كل قياداتنا وعلمائنا من عديمى الكفاءة والموهبة.. اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.