جميلة هى «تونس» حين تبدو كفتاة متمردة، ترقص مبتهجة على شاطئ «جزيرة جربة»، وجليلة هى حين تبدو كسيدة وقور تحتسى قهوتها فى شارع الحبيب بورقيبة، وفى الحالتين هى رائعة.
يحتاج المرء نحو عشر دقائق للسير فى شارع الحبيب بورقيبة فى قلب العاصمة التونسية من بدايته، حيث يقف تمثال الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ممتطياً صهوة جواده، ونهايته حيث ينتصب تمثال المفكر عبدالرحمن بن خلدون، ممسكاً كتابه بيمينه، وبين التمثالين قصص شتى تحفظ للشارع مكانة متميزة فى ذاكرة الشعب التونسى.
فى عام 1987، وبعد أن قفز الرئيس التونسى الأسبق زين العابدين بن على، على كرسى الحكم، أمر بإزالة تمثال الحبيب بورقيبة من الشارع. وفى عام 2016، وفى الاحتفال بالذكرى الستين لاستقلال تونس، أمر الرئيس التونسى الباجى قايد السبسى، بإعادة التمثال إلى موقعه، فى بادرة لرد الاعتبار لزعيم حركة الاستقلال.
وقبلها بنحو خمس سنوات، وبالتحديد يوم 14 يناير 2011، شهد الشارع مظاهرة كانت الأضخم فى مظاهرات الثورة التونسية، واحتفل الشعب التونسى برحيل بن على.
زُرت تونس هذه المرة فى مهمة صحفية لتغطية أعمال القمة العربية، فكنت بين مهمة العمل، التى تدفع المرء لأن يصب جل اهتمامه على السياسة وأخبارها، وبين انشغال المحب لتونس المجذوب دوماً للسير فى شوارعها والحديث إلى أهلها.
فى السياسة، كانت أخبار القمة والإعداد لها وتوفير كل السّبل لإنجاحها فى صدارة المشهد التونسى، وكانت مشاركة الرئيس السيسى فى أعمال القمة محل اهتمام الجميع، وحين أُعلن -تونسياً- أن «السيسى» لن يحضر للمشاركة، أبدى كثيرون من الأصدقاء التوانسة حزنهم لذلك. قالت لى زميلة جزائرية: إن الرئيس السيسى لن يشارك.. لقد انتصر معارضو زيارته داخل الحكومة التونسية، فرددت: لا، بل سيحضر القمة، ويلقى كلمة بلاده أمام القادة، ومستعد للرهان على ذلك، فقبلت الرهان.
لم يكن عندى معلومة تؤكد حضور الرئيس إلى تونس، لكن كان لدىّ شعور راسخ بأن الرئيس سيحرص على المشاركة، وهو ما حدث بالفعل.
قبل القمة بيوم واحد، احتفلت مصر بالأمهات المصريات، وشارك الرئيس فى الاحتفال، وأعلن قرارات اقتصادية واجتماعية مهمة، فكانت هى الأخرى محل اهتمام عدد كبير من الزملاء الصحفيين، فى محاولة للربط بين إعلان القرارات، وحضور الرئيس إلى تونس.
وفى مساء اليوم ذاته، كانت تلك القرارات محور نقاش فى جلستين متتابعتين أمضيتهما بصحبة مجموعة من الأصدقاء العرب من عدة جنسيات.
القرارات التى أعلنها «السيسى» فى القاهرة، والكلمة التى ألقاها فى تونس، أربكت «إخوان تونس»، الذين شنّوا -كعادتهم- حملة ضد مصر والرئيس ضمن تكليفات الجماعة، ومن يدعمها، ويحرك قادتها.
و«إخوان تونس» محشورون الآن فى زاوية التراجع المتواصل فى شعبيتهم، واستمرار التحقيق فى قضية «جهاز مخابراتهم»، المتهم بالتورط فى اغتيال المناضلين شكرى بلعيد ومحمد البراهمى.
أما الناس فى شوارع تونس وأحيائها، فمشغولون بكيفية التغلب على مشاكلهم الداخلية، وأزمة بلدهم الاقتصادية، لكنهم رغم كل شىء ما زالوا قادرين على العيش، مرفوعى الرأس، محبين للحياة.
أستقل سيارة أجرة ذات مساء، فأجد السائق وقد ضبط موجة المذياع على أغنية أم كلثوم «فات الميعاد»، وأنا أحب موسيقى هذه الأغنية التى أبدعها بليغ حمدى، فتأخذنى الموسيقى إلى جلسة قبل عدة سنوات مع الإذاعى الكبير الراحل وجدى الحكيم، وهو يروى قصصاً ومواقف لا ينساها مع المبدع بليغ حمدى.. ويسألنى السائق: الأخ مصرى؟ فأرد مبتسماً: نعم، فيرد يا مرحبا بمصر وأهل مصر، ونغنى معاً مقطعاً من الأغنية.
يقول السائق: فى المساء لا أستمع إلا لصوت أم كلثوم، وأحياناً عبدالحليم حافظ، وفى الصباح أستهل يومى بسماع تلاوة القرآن بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وأحياناً الطبلاوى، ثم يتنهد قائلاً: أيام.. الله يرحم والديك.
أهبط من السيارة الأجرة فى منتصف شارع الحبيب بورقيبة، حيث الفندق، الذى كنت أقيم فيه، فأجد شابين وحولهما مجموعة من الفتيات والشباب يغنون «ألف ليلة وليلة.. بكل العمر.. هو العمر إيه غير ليلة زى الليلة».