كثير هم الشعراء العرب الذين ارتبطت أسماؤهم بأسماء حبيباتهم، فها هو قيس مجنون ليلى يشيع ذكره فى الآفاق مقروناً باسم محبوبته التى أذهبت عقله فراح يذكرها صراحة فى شعره غير عابئ بتقاليد المجتمع التى تحرم الغزل والتشبيب بالبنات، وإلى جانبه جميل بثينة، وكُثير عزة، وغيرهم الكثير ممن تحتفظ ذاكرة الحب العذرى عند العرب بأسمائهم.
وحده عمر بن أبى ربيعة الذى تنقل شعره من فتاة لأخرى واحتفظت قصائده بالمئات من قصص الحب ومشاهد الغرام.
عمر بن أبى ربيعة، فتى قريش المدلل وشاعرها المنذور للحب والغزل، يطوف بشعره بين بنات العرب فَيَهِمْنَ به وتتمنى كل واحدة منهن أن ينظر إليها «عمر» فيكتب لها الخلود فى مفردات شعره الناعم وديباجته السلسة الرقيقة.
هو واسطة العقد الفريد بين امرؤ القيس قديماً ونزار قبانى حديثاً.
وُلد عمر بن أبى ربيعة ومات فى الحجاز، ولكونه وحيد أمه كان مدللاً تجرى أسباب الثراء تحت رجليه فيخضر منها المداد لينتج شعراً غير مسبوق بوصف قصصى شيق. ولأنه كذلك، فقد كان «دونجوان» مثالياً لا يعرف قلبه معنى الاستقرار على حب واحدة ويتنقل بين عشية وضحاها من امرأة إلى أخرى فيبدع شعراً يروى من خلاله صولاته وجولاته بين الجميلات.. كان مفتوناً بنفسه إلى أبعد حد وهو القائل فى وصف نفسه:
(قلن، يسترضينها:
مُنيتنا لو أتانا اليوم فى سر عمر..
بينما يذكرننى أبصرننى
دون قيد الميل يعدو بى الأغر
قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟
قالت الوسطى: نعم، هذا عمر
قالت الصغرى، وقد تيمتها:
قد عرفناه.. وهل يخفى القمر؟!).
والحكاية ببساطة كما يرويها ابن أبى ربيعة شعراً أن ثلاث فتيات كن يتمنين أن يأتيهن عمر سراً، وبينما هن يتحدثن بذلك ظهر عمر وهو فوق حصانه «الأغر»، فقالت الكبرى: «هل تعرفن الفتى؟»، فقالت الوسطى: «نعم، هو عمر». وأضافت الصغرى، وقد هامت به حبّاً: «وهل يخفى القمر؟!».
أىّ تيه وإعجاب بالذات هذا الذى يدفعه لهذا القول؟
ولكن لا عجب فقد كان شاباً وسيماً وثرياً ورفيع الشأن وعريق الأصل.
ومن فرط غوايته كان عمر بن أبى ربيعة يواعد النساء فى الحرم ويلاحق الجميلات منهن ساعة الطواف ويتعرض لهن بشعره، وفى كثير من قصائده وصف لأساليبه الغزلية فى الإيقاع بالحسناوات فى موسم الحج.
وشخصية عمر بن أبى ربيعة يمكن أن نجدها فى كل العصور وفى مختلف الثقافات فقد تحدث عنها الإمام ابن حزم فى كتابه الشيق «طوق الحمامة» قائلاً: «وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة وأقلهم صبراً على المحبوب وانقلابهم على الود على قدر تسرعهم إليه». كما أفرد لها الشاعر الفرنسى موليير مسرحية من أجمل مسرحياته وهى مسرحية «دونجوان»، الذى أصبح وصفاً واسماً لكل من يحمل تلك الصفة، وقد كتب موليير على لسان «دونجوان» وهو يصف حالته:
ماذا؟ تريد أن نتقيد بأول حب وننقطع إليه رافضين من أجله العالم، ولا نعود ننظر إلى أى إنسان آخر بسببه؟
جميل منا أن نتباهى بهذا الشرف المزيف إلى الأبد، شرف أن نكون أوفياء فندفن أنفسنا إلى الأبد فى حب واحد.
وفى مسرحية دونجوان مشاهد تشبه سلوك عمر بن أبى ربيعة الذى كان يغازل أكثر من فتاة فى وقت واحد.
وكما أن شخصية عمر بن أبى ربيعة أو الدونجوان حاضرة فى مختلف العصور والثقافات فهى كذلك ليست قاصرة على الرجال فهناك نساء كعمر بن أبى ربيعة وهن فى سلوكهن يتطابقن مع سلوك الدونجوان. وعنهن كتب الجاحظ فى «رسائل القيان»: لا تكاد تخالص فى عشقها ولا تناصح فى ودها لأنها مكتسبة ومجبولة على نصب الحبال والشرَك للمتربطين ليقعوا فى أنشوطتهما فإذا شاهدها المشاهد رامته باللحظ وداعبته بالتبسم.
ويواصل الجاحظ وصفه لتلك النوعية من النساء الدونجوانات:
وربما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنهم يتحامون الاجتماع ويتغايرون عند الالتقاء فتبكى لواحد بعين وتضحك لآخر بالأخرى وتغمز هذا بذاك.
وبين الدونجوان والدونجوانة قصص تروى وقصائد تغنى ولهذا حديث آخر.