العالم الخفى لـ«الجثث المجهولة»: أسرار بلا أصحاب
محرر «الوطن» فى مشرحة زينهم «صورة أرشيفية»
بين أكثر الملفات المُرهقة لأجهزة البحث بوزارة الداخلية، يأتى ملف «الجثث المجهولة» الذى برز خلال الفترة الماضية، بعد تزايد ظهور تلك الجثث، سواء كانت ظروف وفاتها «طبيعية أو جنائية»، إذ تنفق أجهزة الأمن جهوداً مضاعفة فى تلك القضايا، أملاً فى حل ألغازها الغامضة والتوصل لأطرافها الأصليين. «الوطن» ترصد هنا رحلة الجثث المجهولة منذ العثور عليها فى أى منطقة فى الجمهورية، والإجراءات القانونية المتبعة حيالها، وصولاً إلى تسليم الجثث لمشرحة زينهم وطبيعة الاحتفاظ بها داخل المشرحة تنفيذاً وانتظاراً لقرارات النيابة العامة، حتى دفنها فى مقابر الصدقة، ولكل من هذه المراحل تفاصيل دقيقة، ربما لا يعرفها كثيرون، باستثناء من عايش تلك التجربة المريرة، وتبقى كلمة السر فى معظم هذه القضايا بلاغات الاختفاء والغياب، التى تكون فى أحيان كثيرة طرف خيط يمكن من خلاله التوصل لهوية جثة مجهولة، وضبط الجانى حال كان سبب الوفاة جنائياً.
خبراء ومسئولون يكشفون لـ"الوطن": كواليس الحفظ فى الثلاجات وإجراءات التسليم والدفن
ويكشف خبراء الأمن ومسئولون وموظفون وعمال، على صلة وثيقة بقضايا الجثث المجهولة، كواليس ذلك العالم الخفى، الذى تعج قضاياه بأسرار وخفايا، بعضها مثير وأكثرها مُخيف، فعادة ما تقترن تلك الجثث بأمراض اجتماعية خطيرة، مثل الخلافات الأسرية والزوجية، كما يرتبط بعضها بقضايا جنائية وحوادث إرهابية، والغالبية العظمى تكون لقاطنى الشوارع من المتسولين والمشردين.
الرحلة الأخيرة.. "من المشرحة إلى مقابر الصدقة"3 شهور لإنهاء الإجراءات.. ودفن جماعى بمعاونة "أهل الخير"
جثث ممددة فوق أسرَّة متعددة الأدوار داخل غرف باردة ضوؤها خافت وروائح الفورمالين تعبئ أجواءها، والمشهد كله يبعث الرعب فى نفوس من يطل عليه. هنا ترقد الجثث المجهولة التى تم العثور عليها فى محافظتى القاهرة والجيزة داخل مشرحة زينهم بالقاهرة، وتنتظر التعرف عليها من قبل ذويها، أو قرار النيابة العامة بدفنها مع أسرارها فى مقابر الصدقة، وفى الجانب الآخر توجد ثلاجات الأدراج التى يتم فيها حفظ الجثث المعلومة التى تنتظر التشريح أو قرار النيابة بالدفن بالطريقة المعتادة.
حالة الجثث تثير الشفقة على أناس عاشوا بهوية، وماتوا كأنهم لم يعيشوا على ظهر الأرض أو يعرفهم أحد. وتظل الجثث على حالها، طوال مراحل الإجراءات القانونية المتعلقة بها، حتى تصل إلى مرحلة التصلب، وقد تتعطل تلك الإجراءات لأسابيع وشهور انتظاراً لجرة قلم بحكم القانون، فقبل انتهاء هذه الإجراءات، المحدد لها 3 شهور، لا يمكن لهذه الجثث أن تهنأ برقادها الأخير فى قبر يلم العظام ويصون اللحم والعصب حتى يأكل التراب كل شىء.
الجثث «مجهولة ومعلومة» تُنقل فى العادة إلى مشرحة زينهم لتشريحها فى محاولة لمعرفة سبب الوفاة ثم الاحتفاظ بها فى ثلاجات المشرحة تحت تصرف النيابة العامة التى تأمر بدفن بعضها حسب ظروف كل قضية بالنسبة للجثث المعلومة، أما الجثث المجهولة، فتنتظر على أمل كشف هويتها وتسليمها لذويها، أو دفنها كجثث مجهولة فى مقابر الصدقة الخاصة بمستشفيات جامعة القاهرة.
مصدر بالطب الشرعى، رفض ذكر اسمه لـ«الوطن»، خشية المساءلة القانونية، قال إن الجثث المجهولة تمر برحلة تستغرق عدة أشهر داخل ثلاجات حفظ الموتى، وفى بعض الأحيان قد تستغرق أكثر من عام، وهى الجثث الخاصة بقضايا الإرهاب أو الجثث التى توجد شبهة جنائية فى وفاتها «قضايا قتل»، حيث تستغرق إجراءاتها أطول وقت ممكن على أمل التوصل لذويها والتوصل للجانى.
وأضاف المصدر أن التعامل مع الجثث المجهولة شهدت طفرة كبيرة خلال فترة تولى الدكتور هشام عبدالحميد رئاسة مصلحة الطب الشرعى، حيث أنشأ عدة ثلاجات لتلك الجثث بنظام التجميد، إضافة إلى صيانة جميع ثلاجات حفظ الموتى القديمة والمتهالكة، لكى يتم حفظ الجثة على وضعها الذى دخلت فيه مشرحة زينهم، دون تغير ملامحها بسبب عوامل التبريد وفتح وغلق الثلاجات، حيث إنه فى الماضى كانت الثلاجات «تبريد» فقط دون «تجميد» وهو ما كان يؤدى لتعفن الجثث وتغيير ملامحها بسبب فتح وغلق الثلاجات باستمرار لعدة أسباب، منها دخول الأسر التى تُبلغ بغياب أحد أفرادها لعلهم يتعرفون على ذويهم بين وجوه أصحاب الجثث المجهولة.
وأردف المصدر أن غالبية الجثث المجهولة تكون لمتسولين ومشردين، وكبار السن الذين يعانون أمراضاً ويسقطون موتى فى الشارع دون أوراق هوية تدل على شخصياتهم، وأخيراً «الجثث الجنائية» ونسبتها ليست كبيرة، وعادة ما يتوصل رجال المباحث إلى هوية أصحابها وضبط الجناة، وأكد المصدر أن الجثث المجهولة لا تدفن فُرادى، بل فى مجموعات حسب الأقدمية، حيث تصدر النيابة كل فترة تصاريح دفن لـ10 أو 15 أو حتى 30 جثة لم يتم التعرف على هويتها، وهنا يتم الاتصال بأهل الخير المعروفين لدى المشرحة الذين سبق لهم ترك أرقام هواتفهم لدى المشرحة، للاستعانة بهم فى تغسيل الجثث وتكفينها على نفقتهم والصلاة عليها ونقلها لمقابر الصدقة بمستشفيات جامعة القاهرة خلف مشرحة زينهم بواسطة سيارة نقل الموتى، ودفنهم بنفس الرقم الذى دخلت به الجثة المشرحة، وإذا ظهر بعد ذلك أهلية لإحدى الجثث المجهولة التى تم دفنها، عن طريق التعرف عليها من خلال الصور الموجودة بالمشرحة أو مديرية الأمن بعد تطابق تحليل الحامض النووى لصاحب الجثة والمتعرف عليها من أهليتها، يتم إصدار قرار من النيابة باستخراج الجثة وتسليمها لهم إذا رغبوا فى ذلك، ونقلها من مقابر الصدقة إلى مقابر العائلة الخاصة بها، وفى حالة لم يرغبوا فى تسلمها وطلبوا تركها فى مقابر الصدقة يتم إرشادهم عن المقبرة التى دُفنت فيها الجثة.
وعن رحلة الجثث المجهولة منذ العثور عليها حتى دفنها، يتابع المصدر، قائلاً إنها تصل المشرحة بواسطة سيارة الإسعاف وعن طريق مندوب من قسم الشرطة الذى عُثر على الجثة فى نطاقه، ويتم تسلم الجثة والمحضر الذى يحتوى على تفاصيلها، ويقوم عامل المشرحة والمنوط به تسلم الحالات بفحص الجثة وإثبات أى شىء يوجد مع الجثة سواء كان ذهباً أو مستندات أو أى أحراز فى دفتر المشرحة بالرقم الذى دخلت به الجثة المجهولة، حتى يتم تسليمها للنيابة العامة أو لأهلية المتوفى حال التعرف عليها، ويأتى بعد ذلك وكيل النيابة لفحص الجثة وكتابة تفاصيلها من ملابس وإصابات إن وجدت فى محضر رسمى وتصويرها، ويصدر بعد ذلك قراره بالتشريح إذا وجد إصابات بالجثة، أما إذا لم يُشتبه فى جود شبهة جنائية فى الوفاة، يقرر عرض الجثة على طبيب الصحة للكشف الظاهرى لمعرفة سبب الوفاة، كما يصدر وكيل النيابة قراراً بتصوير الجثة بواسطة مصور الأدلة الجنائية بمديريتى القاهرة أو الجيزة، لإرسالها لمديريات الأمن، ربما يتم التعرف على صاحب أو صاحبة الجثة المجهولة.
مد مشرحة زينهم بثلاجات حفظ بنظام التجميد بدلاً من التبريد للحفاظ على ملامح أى جثة محفوظة والتغلب على أزمة "التعفن"
ومن بين الإجراءات المتبعة تجاه الجثث المجهولة، حسب المصدر، عمل صحيفة حالة جنائية «فيش وتشبيه» للجثة ربما يكون صاحبها محكوماً عليه فى قضايا جنائية أو صاحب سجل إجرامى، وهنا يتم التعرف على هويته، وكل ذلك فى محاولة لكشف هوية الجثة المجهولة كمرحلة أولى لكشف غموض حادث مصرعها، كما يتم أخذ عينة من الجثة المجهولة لإجراء تحليل الحامض النووى ويتم الاحتفاظ به برقم الجثة الذى دخلت به المشرحة، حتى يتم مقارنته بالشخص الذى يدعى أن الجثة المجهولة لأحد ذويه أو حتى بعد دفن الجثة، وتظل نتيجة التحليل موجودة فى المشرحة مدى الحياة فى المعمل الطبى، وبعد ذلك يأتى دور طبيب الصحة للكشف الظاهرى على الجثة، وبعد التأكد من عدم وجود شبهة جنائية فى الوفاة يتم إرسال تقرير للنيابة العامة، والتعامل مع الجثة بشكل طبيعى، وهو أن تظل فى ثلاجات حفظ الجثث المجهولة بمشرحة زينهم لعدة أسابيع بحد أقصى 3 أشهر، ثم تقوم مشرحة زينهم بإخطار النيابة المختصة بعدم الاستدلال على صاحبها ومضى 3 أشهر، وبعدها يصدر وكيل النيابة قراراً بالدفن فى مقابر الصدقة.
مصدر: الغالبية لمتسولين ومشردين ومسنين ماتوا فى الشارع بلا أوراق هوية.. والنسبة الأقل لأطراف فى قضايا جنائية
"جثامين" قضايا الإرهاب والجنايات تستدعى إبقاءها فى الثلاجات لسنوات للتوصل إلى ذويها أو الجُناة
ويوضح المصدر أنه حال اشتباه طبيب الصحة فى وجود شبهة جنائية فى وفاة صاحب الجثة المجهولة، تصدر النيابة قراراً بتشريحها لمعرفة سبب الوفاة، وفى حال تبين أن الوفاة جنائية، يتم تشكيل فريق بحث لفحص بلاغات التغيب حتى الوصول إلى الجناة إذا تمكن كشف هوية الجثة المجهولة، وتظل الجثة لفترة كبيرة قد تتعدى العام، وبعد ذلك يتم صدور قرار من النيابة العامة بالدفن فى مقابر الصدقة إذا لم يتم التوصل لهويتها، وأوضح المصدر أن الجثة المجهولة التى يتم التعرف عليها من قبل ذويها يتم عمل محضر تعارف فى النيابة، وتصدر النيابة قراراً بإجراء تحليل الحامض النووى للشخص المتعرف على الجثة شرط أن يكون من أقارب الدرجة الأولى، لأنه هو الشخص الذى من حقه تسلم الجثة فى حالة ثبوت صدق كلامه، وفى حالة تطابق الجثة مع العينات يتم صدور قرار من النيابة بتسليمها لذويها والتصريح بدفنها.
أقرا إيضا
«زينهم»: زحام ورهبة للأحياء وجثث «داخلة وخارجة»
مساعد وزير الداخلية الأسبق: «الأصعب الجثة مقطوعة الرأس».. وبلاغات الاختفاء أول خيط لحل ألغازها