مصطلح عجيب تجده حاضراً ومتكرراً لدى من نظَّروا لمفاهيم التطرف، هو مصطلح «مملكة الله»، يشخّص المصطلح فوق سطور كتاب «معالم فى الطريق» لـ«سيد قطب»، ونقله عنه بعد ذلك العديد من كتّاب التنظيمات المتطرفة. ويخلص القارئ لهذه الكتابات إلى أن مملكة الله تجعل الحاكمية لله ولا ترضى بتشريع غير تشريعه، فتنزع السلطان من مغتصبيه من البشر وترده إلى الله تعالى. وثمة سؤال أوّلى يطرح نفسه: هل مملكة الله تتحقق على الأرض بمجرد تطبيق الحدود أو غيرها من التشريعات التى يرتضيها من يعتقدون فى هذا الكلام؟ إن هناك تجارب عديدة لدول تتبنى تطبيق الحدود (نظام العقوبات فى الإسلام) ويتصدر الإسلاميون المشهد بها.. فهل تجسد هذه التجارب فكرة «مملكة الله»؟. مؤكد أن المؤمنين بهذه الفكرة سوف يردون بالنفى على هذا السؤال ويحدثونك عن أوضاع أخرى طوباوية سوف تسود «مملكة الله» بصورة تجعلها أقرب إلى «اليوتوبيا». والواقعى هو ما تقوله التجربة، فحيثما وضع الإسلاميون أقدامهم لم يكن لهم من هدف سوى الحكم، وهذا ليس عيباً، العيب أن يزعموا بعد تحقيق مبتغاهم أنهم يقيمون بتجربتهم «مملكة الله»، فأكثر تجاربهم نجاحاً أقامت تجارب للحكم الثيوقراطى (الدينى) المنتمى إلى العصور الوسطى.
الحكم فى الإسلام شأن من شئون البشر، والحاكم الذى يصف نفسه بـ«المسلم»، من المفترض أنه يصعد للحكم باختيار شعبه، ومن حق شعبه أن يحاسبه، وهو مطالب فى كل الأحوال بعدم اتخاذ القرارات بعيداً عن شعبه. وقد أشار النص القرآنى إلى الشورى كأساس لسياسة أمور الدنيا، وأجدنى متفقاً فى هذا السياق مع ما يذهب إليه البعض من أن القرآن الكريم وضع من خلال هذا المبدأ إطاراً لصناعة القرار بين أية مجموعة بشرية، لكن القرآن بحال لم يقدم أية إشارات إجرائية لكيفية تطبيق هذا المبدأ، والأكثر من ذلك أنه جعل تلك الأمور الإجرائية شأناً من شئون الدنيا، وليس شأناً من شئون الدين، فنسب الشورى بصورة كاملة إلى الجماعة البشرية المؤمنة. لدينا فى القرآن سورة كاملة اسمها «الشورى» تقول إحدى آياتها: «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ». فمفردة «أمرهم» واضحة الدلالة على إحالة الأمر برمته إلى الجماعة البشرية المؤمنة، ويتساند مع ذلك أن أمر الشورى وإطلاق يد البشر فى صناعة القرار بالتوافق فيما بينهم تم حتى فى الحالات التى شهدت نزول الوحى على النبى صلى الله عليه وسلم، وليس أدل على ذلك من التوجيه الربانى للنبى صلى الله عليه وسلم «وشاورهم فى الأمر»، فالوحى يتصل بأمور الدين، أما أمور الدنيا فمرتبطة بالاجتهاد البشرى، وإلا أُلصقت أخطاء الأداء البشرى -وهى واردة فى كل الأحوال- بالدين، وذلك مكمن من مكامن الخطر.
ولست بحاجة إلى التذكير بأن أحداً من الخلفاء الراشدين الأربعة لم يجرؤ على القول بأنه يحقق «مملكة الله» على الأرض. واحتفظ المسلمون فى عهدهم بحق كامل فى مراجعة من يجلس على كرسى الخلافة، قناعة منهم بأنهم لا يعيشون فى مملكة سماوية أو دولة يحكمها إله.