عندما تفاجئنى كلمات نزار قبانى بصوت عبدالحليم حافظ، الذى يحمل بين الحروف أطناناً من مشاعر العشق والعذاب والحنان والتوسل والتمنى والانتظار والحنين والبحث عمن يتسرب من بين أصابعنا، كما لو كان مياهاً، وليس مشاعر، أو حباً، أو صداقة، أو قرابة دم، أو أمومة، وأبوة، أو حتى مصاهرة ونسب -عندما يفاجئنى بأجمل تعبير لغوى كتبه إنسان، وهو يدعو الحبيب للحصول على ما يريد وقتما وكيفما يشاء- «إن كنت أعز عليك، فخذ بيدىّ فأنا مفتون من رأسى حتى قدمىّ»، فإن التساؤلات تهاجمنى عن هذا المعنى الراقى الفصيح والبليغ للعطاء، فالحبيب فى ذلك التعبير يخشى أن يكون هناك سوء فهم لموقفه، ويتمنى لو قبل الآخر بأن يمد يده له بما يملك. وأتأكد فى تلك اللحظة أنه من أصعب المعادلات التى نحاول أن نطبقها فى حياتنا كى نستطيع أن نتذوق معنى السعادة والرضا عن النفس والحب والمنح والاكتفاء والارتواء هى كيف نعطى، ومتى، ولمن؟ ويبدو أن هذه المعادلة أخذت الكثير من اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع منذ قديم الزمن، حيث تحدث عنها الفيلسوف سيجموند فرويد، فأكد أن الإنسان الذى يمكن أن يوصف بالمعطاء، وهو الذى يساعد من حوله دون انتظار مقابل يكون عرضة للاستهلاك النفسى والصحى إلا أنه على المدى البعيد يكون الشخصية الأكثر نجاحاً وتأثيراً فى العديد من المجالات، وأرجع ذلك إلى عدة أسباب أهمها نوعية العلاقات التى يخلقها المعطاء من حوله، والتى تساعد على جعل النجاح شيئاً (معدياً) يصيب الجميع، ويدفعهم لمساندة نجاحه هو. بعكس الشخص الذى يمكن أن يوصف بالأخّاذ والذى يبنى نجاحه على إنقاص شىء ممن حوله، ويخلق عداءات. الأمر الذى يمكن اختصاره فى جملة واحدة تقول: «إذا أردت أن تكون ناجحاً، فكن معطاء». واستمراراً للاهتمام بهذه المعادلة المحيرة، قام د. آدم جرانيت، المتخصص فى علم النفس المنظمى، والذى اختير عام ٢٠١٥ واحداً من الـ٢٥ مفكراً الأكثر تأثيراً فى العالم بدراسة تحليلية مستفيضة للعديد من الدراسات العلمية النفسية فى العالم، حتى وصل إلى نتائج غير متوقعة وثورية فى موازين النجاح التى تعوّدنا على سماعها، حيث توصل إلى أن الشخص المعطاء يأتى فى أعلى سلم الأشخاص الناجحين فى الواقع العملى، ويليه الشخص الأخاذ، أو الأنانى، حيث قدم نتائجه فى كتاب بعنوان Give and Take، صدر عام ٢٠١٣ وصار من أفضل الكتب مبيعاً. وقد خلصت نتائج هذا الكتاب إلى أن الناس من حولك يمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات: «الأخّاذ»، وهو الذى يسعى لأكبر قدر من الاستفادة مما حوله، و«المعطاء» الذى يساعد من حوله دون انتظار مقابل، و«الموازِن» الذى يقع بين الاثنين، ويعطى على قدر توقّعه من الأخذ. ويبدو أن الشعراء والمطربين والموسيقيين يسيرون بإبداعاتهم فى اتجاه علماء النفس نفسه، ويصلون لنفس نتائجهم وإن اختلفت طرق التعبير، ومن أصدق الأمثلة على ذلك كلمات الشاعر إبراهيم ناجى: «أعطنى حريتى أطلق يدىّ.. إننى أعطيت ما استبقيت شيئاً) والتى يملؤها صوت أم كلثوم بإحساس الندم والألم من الحرمان، وأطلق لها العنان إلى السماء الموسيقار رياض السنباطى بألحانه، والتى تؤكد صحة ما يقوله الحكماء بأن الإنسان يصبح الكون نفسه عندما يعطى، ويمنح بسخاء وسلاسة وحب، وأن من يريد أن تمنحه السماء ما يريد، فعليه أن يعطى الآخرين بالطريقة نفسها، وأنه إذا أنفقت أو ساعدت شخصاً، فساعده بحب ويسر، ولا تفكر كثيراً ولا تدقق. وفى قاموس المعانى للغة العربية تأتى كلمة «هات» كاسم فعل أمر بمعنى أعطنى. وتكون مرادفاته امنحنى، أو ناولنى، وعندما يقول أحدهم: «هات يا رجل»، فإنه يقصد: قل ما عندك، والشىء نفسه مع المرأة. ولكم أقول أحبائى وأصدقائى إياكم والأخذ دون عطاء، فالقلوب والنفوس تتأذى من الحرمان والقسوة، وحاولوا أن تنجحوا فى تلك المعادلة لتَسعدوا وتُسعدوا أحبابكم وتكونوا من المعطائين.