وضع محمد على يده على جوهر العلة فى شخصية «أدهم المصرى»، والمتمثلة فى كراهية «النظام» وإيثار «الفوضى». وهى علة تلخص لك كافة سمات الشخصية المصرية التى حددها «شابرول» فى كتاب «وصف مصر»، مثل القدرية التى يعكسها المثل المصرى الذى يقول: «الله جاب.. الله خَد.. الله عليه العوض»، والميل إلى الحياة الرخوة (الاستهلاكية بالمصطلح الحديث) التى ينفق فيها قليلاً من الجهد وكثيراً من المال وتجدها فى مثل: «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب» والترخُّص فى تسليم عقله إلى أقرب عابر سبيل: «ادينى عقلك وامشى حافى» وغير ذلك.
بدأ محمد على تجربته بالعديد من الإجراءات الهادفة إلى تنظيم شئون الدولة والرعية، وجعل من هذه الإجراءات مقدمات أساسية لتجربته فى بناء مصر الحديثة، لكن قطاعات عديدة من المصريين لم ترُق لها هذه الإجراءات، لأنهم فقدوا العديد من الحقوق المكتسبة، على حد تعبير المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال، التى كانوا يحصلون عليها فيما سبق. بإمكانك أن تجد نموذجاً لذلك لدى كبير المؤرخين «عبدالرحمن الجبرتى» وهو واحد من أهم المثقفين الذين عاصروا التجربة العلوية فى بداياتها، وقد تبنَّى موقفاً ناقداً للإجراءات التى اتخذها محمد على وجارَ فيها على أراضى الأرزاق وكذلك على خطوته المتعلقة بالإطاحة بنظام الالتزام. ويذهب «غربال» فى كتابه «محمد على الكبير» إلى أن «الجبرتى» لم يكن راضياً عن الخطوات التى اتخذها الباشا خلال سنى حكمه الأولى، رغم ما ذكره فى كتابه: «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» من ضروب فساد سيطرت على مُلاك وواضعى اليد على أراضى الأرزاق والأحباس، وما شاب أداء الملتزمين من افتراءات ومظالم. العامل الأهم الذى تدخل فى تشكيل وجهة نظر «الجبرتى» حول الخطوات الأولى فى تجربة محمد على تمثلت فى «غياب العدالة». يقول «الجبرتى»: «فلو وفَّقه الله -يقصد محمد على- لشىء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه».
الجيل الذى عاصر الخطوات الأولى من تجربة محمد على، وهو نفس الجيل الذى أتى به إلى الحكم، كان ممتعضاً من الإجراءات النظامية التى يتخذها محمد على، ورغم الدفاع المستميت الذى أبداه هذا الجيل عن الباشا ضد ألاعيب السلطة العثمانية، وضد الإنجليز عندما نزلوا الإسكندرية عام 1807 وتصدى الشعب لهم حين قرروا الزحف على رشيد، فإن أبناء هذا الجيل أظهروا حالة من حالات عدم الرضا ضد محمد على، ظهرت أبرز وأهم تجلياتها فى الموقف الذى اتخذه «أدهم المصرى» من المذبحة التى قام بها الباشا ضد المماليك عام 1811. ورغم أن الأجيال التالية لهذا الجيل بدت أكثر تفهماً للتجربة التى يقوم بها الوالى فى بناء دولة حديثة، فإن فكرة تمجيد الفوضى ظلت كامنة فى النفوس لتظهر فى أحداث بعينها. وربما كان السر فى ذلك أن الوالى لم يبذل جهداً فى التغيير الثقافى وإعادة صياغة عقل المواطن ليتناغم تفكيره مع فكرة الدولة الحديثة، يماثل الجهد الذى بذله فى تجربته فى بناء الدولة.