فى الأسبوع الماضى غرد أحدهم بإخلاص للتفاهة وولع بالجهل قائلاً: «لو كنت موجود قبل «انقلاب» يوليو 1952 لأبلغت الملك فاروق عن الظباط اللى عملوا الانقلاب».، كتبها ليفتح أبواباً واسعة للتفاهة والسخافة والجهل، فحصدت التغريدة عشرات المشاركات ومثلها من علامات الإعجاب، وفى ذكرى ثورة يوليو العظيمة من كل عام يتسابق كثيرون من أعدائها التقليديين، وكارهيها المحدثين فى تقديم مثل هذه النكات السخيفة التى باتت تلقى رواجاً فى عصر ثقافة السوشيال ميديا ليختلط الحابل بالنابل ويسود الهزل فى مقام الجد. وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن ثورة يوليو وأبطالها وعلى رأسهم القائد جمال عبدالناصر، كما أننى لست بصدد الرد على مثل هذه الكتابات الساذجة التى تكشف جهل أصحابها، وضلال مروجيها، ولا أنا بصدد تفنيد ادعاءات معارضى ثورة يوليو الذين يقيمون سرادق عزاء سنوى للترحم على أيام الملكية وسنوات حكم الأسرة العلوية. أقول أنا لست بصدد الرد على كل هؤلاء، فثورة يوليو وأبطالها وإنجازاتها وإخفاقاتها راسخة فى وعى ووجدان المصريين والعرب بل وكل الحالمين بمجتمع العدل والمساواة والساعين نحو تحقيقه، لكنى وفى ظل ارتفاع الطلب على التفاهة فى عصر السوشيال ميديا أود الإشارة لعدة نقاط حفاظاً على تاريخنا وحماية لمستقبلنا:
النقطة الأولى: إن ثورة يوليو كانت حلقة من حلقات النضال الوطنى المستمر، وإنها جاءت استجابة لتحديات فشلت أحزاب وقوى ما قبل الثورة فى مواجهتها رغم أنها أحدثت تراكماً ثورياً مقدراً مهد الطريق أمام الترحيب الشعبى الواسع بحركة الضباط، هذا الترحيب الذى تحول إلى إيمان راسخ وتأييد لا محدود للتحولات الجذرية التى أحدثتها الثورة فى بنية المجتمع المصرى، وفى خريطة التحالفات الإقليمية والدولية.
النقطة الثانية: وكغيرها من الأحداث التاريخية الكبرى فقد حققت الثورة نجاحات عظيمة لا ينكرها إلا جاحد ومنيت بخسائر غير قليلة لا يتجاهلها إلا جاهل.
النقطة الثالثة: إن معسكر أعداء ثورة يوليو كان واضح المعالم محدد القسمات، وفى مقدمتهم قوى الاستعمار القديم والجديد، والصهيونية العالمية وممثلوها فى إسرائيل، وتنظيم الإخوان ومن أيدهم وسار على دربهم، وقطاع من قوى اليسار المصرى والعربى ومثلهم من الليبراليين، خاصة من أضيروا من سياسات يوليو وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، هذا إلى جانب قوى الرجعية التى كانت تخشى المد الثورى الذى رفعت يوليو لواءه.
أقول كان هذا المعسكر واضحاً وكانت مواقفه جلية، وهؤلاء جميعاً لم يفوتوا فرصة منذ رحيل قائد ثورة يوليو عام 1970 إلا واستغلوها للنيل من الرجل وثورته، وأنفقوا فى سبيل تلك الغاية ملايين الدولارات لكنهم ورغم ما بذلوه من جهد وما أنفقوه من أموال لم ينجحوا فى تشويه الثورة وكانت صورة عبدالناصر فى كل محنة أو أزمة تلم بالوطن والأمة كفيلة بالرد عليهم.
النقطة الرابعة: فى صفوف معارضى ثورة يوليو مصريون وعرب مخلصون اختلفوا مع بعض السياسات قليلة كانت أو كثيرة لكنهم كانوا وما زالوا يعارضون من منطلقات وطنية وقومية، ولا يقبلون رغم معارضتهم أن يشوهوا حقيقة أو يختلقوا أكاذيب، ويرفضون رغم معارضتهم أن يتم استغلالهم واستخدام مواقفهم ضد الوطن ونضال أبنائه.
النقطة الخامسة: فى السنوات الأخيرة تغيرت الأوضاع وسادت ثقافة السوشيال ميديا وأهينت قيم وطنية وأخلاقية عليا واختلت موازين الفكر والثقافة وأصبح كل شىء مباحاً، وبات حجم التأثير يقاس بعدد المتابعين، وأرقام علامات الإعجاب، وإحصاءات إعادة التغريد.
النقطة السادسة: وفى تلك الأجواء طغى الهزل فى مقام الجد وطالت النكات السخيفة أسماء ومؤسسات عظيمة، ومحطات مهمة فى تاريخنا القومى ووقائع حاسمة فى ذاكرتنا الجماعية.
النقطة السابعة: ورغم كل ذلك فأنا ألتمس بعض العذر لمن وقعوا فى هذا الفخ وأدعوا لإعادة الاعتبار للثقافة الجادة، والمعرفة الحقيقية، فتاريخنا يجب ألا يترك لعبث العابثين من الأعداء الحقيقيين لوطننا وأمتنا، فالأمر لا يتوقف عند حدود ثورة يوليو وزعيمها، فالهدف هو إعادة كتابة تاريخنا على مزاج أعدائنا، ووفقاً لرؤيتهم، الهدف هو صياغة مستقبلنا تنفيذاً لمخططاتهم وتحقيقاً لمشروعاتهم، والمعركة ليست على ماض يحاولون تشويهه بل على مستقبل يسعون للسيطرة عليه، ونحن لن نتمكن من صياغة مستقبلنا على النحو الذى نريد إلا إذا فهمنا تاريخنا على النحو الذى كان.