سنترك قليلاً حكايات «أدهم المصرى» لنستأنفها فيما بعد، ونتوقف أمام «أيام عرفات» التى نعيش فى ظلالها الآن.
دعونا بداية نتأمل موضوع الجبل ووضعيته الخاصة فى حياة المؤمنين من أصحاب الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية.
كان الجبل حاضراً بقوة فى حياة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ففوق جبل «حراء» كان اللقاء الأول بين محمد وجبريل، حين نزل وحى السماء بكلمة «اقرأ» على النبى، صلى الله عليه وسلم، وجاءه أمر الله تعالى بدعوة الناس إلى رسالة الإسلام.
وبين صخور جبل «ثور» اختبأ النبى، صلى الله عليه وسلم، مع صاحبه أبى بكر، رضى الله عنه، من مشركى مكة، خلال رحلة الهجرة التى شكّلت محطة مفصلية من محطات الرسالة المحمدية.
وفوق جبل «عرفات» كانت الخطبة الأخيرة للنبى، صلى الله عليه وسلم، يوم حج بالمسلمين، مشتملة على آخر وصاياه للأمة.
وتعلو قيمة الجبل أيضاً فى الوجدان المسيحى؛ فالموعظة الكبرى للمسيح، عليه السلام، هى «موعظة الجبل»، حين بيّن للناس أسس وأخلاقيات الإيمان المسيحى.
وفوق جبل الطور بسيناء ناجى موسى، عليه السلام، ربه، ثم تجلّى العلى القدير على الجبل فجعله دكاً.
فى الوادى المقدس «طوى» نزلت الألواح على نبى بنى إسرائيل، ناطقة بكلمات التوراة.
الجبل قطعة نابضة من الحياة الإيمانية لأصحاب الديانات السماوية، وثمة علاقة خاصة تربط بين هذا المعلم من معالم جغرافيا الأرض وكلمات السماء.
ساعات تفصلنا عن الموقف العظيم الذى يقف فيه المسلمون فوق جبل عرفات الذى سارت الخطى الشريفة لنبى الرحمة محمد، صلى الله عليه وسلم، فوق ترابه، وعلى إحدى صخوره وقف محمد خطيباً للمرة الأخيرة.
احتل موضوع حرمة الدم المساحة الأكبر من الخطبة التاريخية التى أسمعها النبى للمسلمين، وكأنه كان يرى بعين إيمانه كيف سيتحول جبل الرحمة إلى ساحة من ساحات الفتنة، وكيف سيصبح الدم مثل الماء فى أعين بعض المنتسبين إلى الإسلام، وكيف ستصبح الرحمة حلماً بعيد المنال، وأملاً فى حياة المسلمين، يطول انتظاره ولا يجىء. من فوق جبل عرفات جاءت كلمات النبى داعية إلى حرمة الدماء وحرمة الاستغلال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا.
ألا كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة.
وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً فى بنى سعد فقتلته هذيل، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله».
كانت آخر كلمات النبى مشتملة على الأساسين الأعظمين للإصلاح: حرمة الدم، وحرمة المال، فلا عبث بأرواح الناس، ولا لعب بأرزاقهم. وعدم احترام هذين الأساسين يضع المقدمة الكبرى للفساد.
حكايات التاريخ وسياق الحال يشهد أن المسلمين، بعد مرور أكثر من 14 قرناً من الزمان، لم يستوعبوا درس عرفات بعد، ذلك الجبل الآسر الذى أراد الله تعالى له أن يكون رمزاً للرحمة فحوّله البعض إلى رمز للفتنة.