خناقة افتراضية حامية الوطيس تدور رحاها بين فريقين، وبينهما مجموعات صغيرة تفتئت هنا تارة، وهناك تارة، على البقايا وما تيسر من جنازات، علّهم يشبعون فيها لطماً ويروون من خلالها عطشاً للقيل والقال.
فأن تتساءل عما جرى فى محيط المعهد القومى للأورام فى تلك الليلة المشئومة، فهذا طبيعى وواقعى ومتوقع. وألا تملك سوى توجيه اللوم الشديد جداً والنقد العنيف جداً جداً للتاركين الشوارع «تضرب تقلب» فى فوضى رهيبة جداً جداً جداً لدرجة حولت السير العكسى إلى مشهد معتاد، فهذا حقك تماماً. وأن تنتظر بفارغ الصبر ما تسفر عنه التحقيقات وما تؤول إليه الشهادات فيما يختص بالسيارة وقائدها ومحتواها، فهذا عين الصواب. بل إن القفز إلى استنتاجات حتى وإن كان بعضها غير علمى، والخروج بتحليلات حتى وإن كانت صادرة من على القهوة، حيث «حجرين شيشة وطاولة ودومينو» فهذا بات يحدث كثيراً، وإن كان مكروهاً. لكن كيف يتفتق ذهن البعض عن نظرية خزعبلية شديدة الالتواء عميقة الانحناء لا يمكن وصفها إلا بافتقاد الإبداع والانجراف وراء الخيال غير العلمى للترويج لفكرة وجود مخطط لحرق العاصمة القديمة لتلميع الجديدة، والقضاء على كل مظاهر المدنية والتحضر لتفريغ القديمة؟!
وقد ارتكز البعض فى إطار الترويج للمخطط الجهنمى اللوذعى على جملة «سيتركون العاصمة القديمة لتحترق بأهلها وتندثر ظلماً وفقراً ومرضاً، وسيذهبون إلى عاصمتهم الجديدة حتى لا تتأذى أعينهم بكل ذلك الدمار» الواردة فى «يوتوبيا» للراحل المبدع الدكتور أحمد خالد توفيق. الراحل كان صديقاً عزيزاً وبيننا ود كبير، بغضّ النظر عن اختلاف فى الرؤى وفروق فى الآراء. لكن لا أظن أنه لو كان بيننا اليوم، ورغم مواقفه السياسية، أنه كان سيستخدم كلماته لعمل إسقاطات أو الخروج بتفسيرات لما جرى فى محيط المعهد القومى للأورام.. لماذا؟ لأنه -رحمه الله- لم يكن غبياً أو سطحياً أو تافهاً. حتى خياله الروائى والإبداعى لم يكن يشوبه هطل أو يعانى شططاً. نختلف أو نتفق معه، لكنه ظل قيمة بعيدة عن الهطل السياسى الذى يدفع صاحبه إلى القيام بألعاب بهلوانية للاحتفاظ بمريديه.
مريدو الراحل أحمد خالد توفيق لجأوا إلى المقطع المذكور أعلاه للدلالة على أن الحكومة تحرق العاصمة الحالية تمهيداً للرحيل إلى العاصمة الجديدة، وهو ما لاقى قبولاً لدى البعض من المعارضين ومباركة لدى المرتزقين إعلامياً وسياسياً وفيسبوكياً من تلك المعارضة، ومتزعمى حركة «رايحة بينا على فين يا مصر؟» و«آه يا بلد» و«حسنين ومحمدين راحوا يا ولد»... إلى آخر الصعبانيات الحنجورية.
ولأن ما يدق عليه هؤلاء من وجود خطة لحرق القاهرة أقرب ما يكون إلى وجود خطة لتسكين سكان الدويقة على كوكب بلوتو المطرود من المجموعة الشمسية، فقد ذكرنى هذا الإسقاط المرتكز على كلام أحمد خالد توفيق، بحرق القديمة للتمهيد للجديدة، بمن أشاعوا وجود مؤامرة وراء إقصاء بلوتو من قائمة الكواكب السيارة فى المجموعة الشمسية، وأن ذلك ربما حدث حتى يؤسس علماء الفلك مجموعة جديدة للكواكب الصغيرة تجذب الأضواء بعيداً عن المجموعة القديمة بكواكبها. الطريف أن البعض ممن أعرفهم معرفة شخصية، ومن لم يسمعوا عن أحمد خالد توفيق من الأصل، بذلوا جهداً عاتياً فى «لايك» و«شير» كلمات حرق مدينتنا والنزوح إلى مدينتهم وتركنا وحدنا فى الدمار وتمتعهم وحدهم بالجمال والروعة.
الروعة فى المسألة تكمن فى هذا الكم من الخيالات الفعلية، حيث التعامل مع ما تعانيه القاهرة من قبح معمارى وفوضى مرورية وإهمال فى الخدمات، حيث تلال القمامة فى أرقى الأحياء وأغناها وإشغالات لا أول لها ولا آخر.. وغيرها، وكأنها مفاجأة تفاجأ بها سكانها. البعض صدّق وآمن، تحت تأثير مخدر فيسبوك، أنه كان يعيش فى زيوريخ ثم استيقظ ليجد أن مدينته قد تم البناء على أراضيها الزراعية، وسيطر «حوكشة» و«حنتيرة» على مواقف سياراتها، وتجاهل المرور عمله فتحولت فوضى عارمة.
وغاب عن البعض أن ما يضرب القاهرة وغيرها من المدن ناجم عن عقود من الإهمال والفساد وموت إكلينكى للضمائر وصحوة بديلة للتدين المظهرى الذى يُغنى عن الضمير والنظافة والعمل.
الحوار القائم على المنطق غاب تحت وطأة التراشقات التدوينية والسجالات التغريدية على مواقع التواصل الاجتماعى بين هؤلاء الذين يرون الدولة تحرق مدينتنا وأولئك الذين يرون أن هؤلاء فقدوا عقولهم. ورغم ذلك، فربما تكون هذه المعركة الكلامية موحية بمزيد من المعلومات والمصارحات الحكومية لإخبارنا بما يمكن توقعه فى شأن العاصمة الإدارية الجديدة، وموقف العاصمة القاهرة التى لا يمكن أن تصبح قديمة، وذلك درءاً لمزيد من اللغط واتقاء شرور الصيد فى المياه العكرة.
وكل عام ومدننا كلها وسكانها بخير.