أحد الأصدقاء السعوديين طلب مساعدتى لإجراء جراحة لنجله بمركز الكلى بالمنصورة. قلت له: لماذا لا تسافر إلى أوروبا أو أمريكا وأنت قادر مادياً؟ أجاب فعلت ذلك والجراحة فشلت ونصحونى بمركز غنيم بالمنصورة.
حالات كثيرة عربية ومصرية سافرت للعلاج فى الغرب، ثم عادت للمنصورة بناء على نصائح المستشفيات الأجنبية نفسها، وحدث ذلك مع كاتبنا الكبير الراحل أنيس منصور ولكن بعد استئصال إحدى كليتيه بالخطأ فى أحد مستشفيات فرنسا.
كل هذا بفضل العالم الجليل د. محمد غنيم الذى لم ينشئ مبنى طبياً فى المنصورة بل قدم لمصر نموذجاً يحتذى فى الوطنية والنجاح وأسس مدرسة علماؤها حالياً هم الأفضل عالمياً ويشرفون بلدهم فى كل مكان.
ولذلك حينما كنا طلاباً بالمنصورة من 25 سنة وفى كليات غير الطب كان «غنيم» مثلنا الأعلى فى العطاء والانتماء للبلد وكنا نراه نموذجاً لعلماء مصر الذين حملوها على أكتافهم وعاشوا لحظات أفراحها وأحزانها وفضلوا فقراءها على دولارات الهجرة والحصول على جنسية أجنبية، فمنذ تخرجه فى طب قصر العينى ذهب للمنصورة، وحتى الآن يعمل فقط فى المستشفى الحكومى لخدمة المرضى الفقراء.
د. غنيم أثبت أن مصر تستطيع النهوض فى سنوات قليلة جداً، لأنه وبأبناء الفلاحين فى الدلتا وبإمكانيات ضئيلة جداً استطاع إقامة صرح طبى أصبح قبلة العالم فى العلاج والتدريب والبحث العلمى وعلى مدار 37 عاماً ما زال يقدم خدماته المتميزة بالمجان ومن تتخطى قدماه بوابة مركز الكلى فكأنما تخطى حدود الجغرافيا والتاريخ والزمان والمكان وانتقل من التخلف إلى التقدم. ليس هذا فقط، ولكنه كان سبباً فى نهضة جعلت المنصورة عاصمة مصر الطبية.
د. غنيم لم يكتف بأن وهب حياته كلها للمستشفى الحكومى وعدم امتلاك عيادة خاصة ولم يكتف بالتبرع بالدم لمرضاه، ولكنه كان يسافر الخارج لإجراء عمليات جراحية والتبرع بمقابلها المادى لصالح مركز الكلى، بل حينما احتاج هو لجراحة دقيقة خارج مصر وصدر له قرار علاج على نفقة الدولة تبرع بقيمة القرار لوحدة أبحاث الخلايا الجذعية التى ما زال يعمل بها لإنقاذ البشرية.
د. غنيم استطاع أن يؤسس لنظام إدارة جديد على مصر، وهو الإدارة بالقدوة، بمعنى أنه يطبق على نفسه ما يطلبه من تلاميذه ومرؤوسيه، وكان يجمع بين الحزم الشديد والحب والتعاون والرغبة الصادقة فى النجاح.
العالم الجليل الذى تجاوز 80 عاماً ما زال يحمل هموم بلده ويتمنى تقدمه واستقراره فليس لديه سوى جنسيته ولا يطمع فى منصب وزارى أو سياسى بل لم يستفد شخصياً من منصبه كمستشار للرئيس السادات أو من عضويته فى الهيئة الاستشارية للرئيس السيسى.
وما زال يعيش فى شقة إيجار من عام 1974 حتى الآن وقد لا يستطيع سداد إيجارها ومن الممكن أن يطرد منها إذا أقر البرلمان تعديلات قانون الإيجارات القديمة. وكان فى استطاعته أن يصبح أغنى رجل فى مصر وهو حقاً كذلك ولكن ليس بالأموال والقصور بل بالاستغناء وراحة البال وحب ودعوات فقراء المرضى التى تُنير له الطريق فى الدنيا والآخرة.
د. غنيم رمز وحدوتة مصرية فى زمن الرموز فيه نادرة وحياته تستحق أن تكون عملاً درامياً تشاهده الأجيال، فهو خير مثال وقدوة، تحتذى لشبابنا المحاصر باليأس والإحباط وبالدراما المبتذلة المدمرة.