كثيرون يعرفون العلاقة الخاصة التى ربطت بين أمير الشعراء أحمد شوقى وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، فقد لعب أمير الشعراء الدور الأكبر فى اكتشاف وتثقيف وصقل موهبة موسيقار الأجيال، وكان له بمثابة الأب الروحى، وقد لحن عبدالوهاب كثيراً من أشعار شوقى، بل إن شوقى كتب بعض الأغنيات خصيصاً ليغنيها محمد عبدالوهاب، لكن قليلين من يعرفون أن هناك شاعراً آخر مُنح لقب أمير الشعراء بعد رحيل أحمد شوقى عام 1932، وهو الشاعر اللبنانى بشارة الخورى أو الأخطل الصغير، ومن أشهر قصائده المغناة، ما لحنه فريد الأطرش «عش أنت»، و«أضنيتنى بالهجر»، ومن أغانى فيروز الشهيرة المأخوذة من قصائده «يبكى ويضحك لا حزناً ولا فرحاً»، و«يا عاقد الحاجبين»، أما موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب فقد غنى من أشعاره بعد عام واحد من رحيل أحمد شوقى أغنية «الهوى والجمال»، كما غنى له «يا ورد مين يشتريك» التى مزج فيها بين الفصحى والعامية فى نسج بديع، وكذلك أغنية «جفنه علم الغزل»، وهى الأغنية التى لحنها عبدالوهاب وسجلها فى برلين بعد ساعات من وصولها إليه من الشاعر بشارة الخورى عام 1933، وبعدها طار عبدالوهاب من برلين إلى باريس ليلحق بالمخرج محمد كريم ويقنعه بضرورة وضع الأغنية فى فيلم الوردة البيضا، الذى كان كريم قد أوشك على الانتهاء من أعمال المونتاج الخاصة به فكان له ما أراد، وأنا شخصياً أحب أشعار بشارة الخورى وأحب موسيقى محمد عبدالوهاب، وتبهجنى أغنية «جفنه علم الغزل» سواء سمعتها بصوت محمد عبدالوهاب أو بصوت على الحجار، لكن ما كان يشغلنى فى تلك الأغنية
هو المقطع الذى يقول فيه: ومن العلم ما قتل. وهذا المقطع هو الذى دفعنى لكتابة هذه المقدمة التى ستبدو للقارئ حالاً أنها بعيدة عن الغاية التى من أجلها شرعت فى كتابة هذا المقال، هل يمكن فعلاً أن يقود العلم إلى القتل؟ بمعنى آخر هل يمكن أن يكون العلم سبباً فى قتل العالم؟ أنا هنا لا أتحدث عن عذوبة ورقة القصيدة بل عن هذا السؤال الذى كان ولا يزال يثير مخاوفى، وتاريخنا العربى المخضب بالدماء للأسف يحمل كثيراً من الوقائع التى كان العلم فيها سبباً لقتل العلماء، وللحق فإن أوروبا أيضاً فى عصور سيطرة الكنيسة شهدت الكثير من حوادث اضطهاد العلماء وإعدامهم بل وإحراق بعض منهم، وقائمة العلماء الذين انتهت حياتهم بطريقة مأساوية لخلافهم مع رجال الدين أو أهل السلطان فى زمانهم طويلة، بل وسيفاجأ القارئ حين يعرف أن كثيراً من العلماء الذين تفخر بهم الحضارة العربية والذين يستخدم بعض شيوخ السلفية أسماءهم للتدليل على أن عصر الخلافة الإسلامية التى يريدون إعادة إحيائها شهد صعود نجم هؤلاء العلماء، أقول سيفاجأ القارئ حين يعلم أن كثيراً منهم قد انتهت حياتهم على نحو مأساوى.
لنأخذ مثلاً أبوالكيمياء العالم الجليل جابر بن حيان، الذى قال عنه ابن خلدون: إمام المدونين الذى ينسب له علم الكيمياء حتى إنهم يقولون عن الكيمياء «علم جابر بن حيان»، وعنه يقول صاحب كتاب «كيمياء العصور الوسطى» العالم الفرنسى مارسيلان بيرتيلو: إن لجابر بن حيان فى الكيمياء ما لأرسطو فى المنطق. جابر بن حيان هذا مات فى السجن بعد أن جاوز التسعين من عمره، ولم يشفع له علمه ولا فضله ولا كبر سنه، وجابر بن حيان وصفه بعض المتشددين فى عصره بالزنديق لاشتغاله بالكيمياء، التى لم يعمل بها نبى ولا صحابى ولا واحد من السلف الصالح، «ولا بد هنا من الإشارة إلى ما كتبه ابن تيمية فى تحريم الكيمياء واتهام علمائها بأنهم أهل غش وبهتان».
أما فخر الحضارة العربية الشيخ الرئيس بن سينا، الذى قيل عنه إنه أشهر من أن يذكر وفضائله أظهر من أن تسطر، وهو صاحب الكتاب الأشهر القانون فى الطب، هو الذى وضع أسس علم التشريح، لكن ورغم ذلك فقد وصفه متشددو عصره بأنه إمام الملحدين، وصدرت عدة أحكام بإعدامه وتمكن من الهروب عدة مرات حتى رحل، أما الحسن بن الهيثم، رائد علم البصريات، وواحد من أهم علماء الطب والهندسة والفلك، فقد اتهم أيضاً بالكفر والإلحاد بل واتهم بالجنون وأجبر على البقاء فى بيته حتى وافته المنية، كل هؤلاء وغيرهم ممن كانوا أصحاب الفضل فى النهضة العملية التى عاشتها أوروبا وسبباً فيما تعيشه من تقدم الآن كانوا فى مرمى نيران سلفيى الخلافة وسلاطينها..حقاً ومن العلم ما قتل.