«نعم» خبر رحيلها المباغت كان مفجعاً، لم يصدقه أحد ممن عرفها ولم يعرفها، أعترف أننى كنت من المعجبين بأدائها كمذيعة مهنية محترفة تحترم ضيوفها، وتحترم وعى المشاهد فلم تمر على ناصية الإسفاف ولو مرة واحدة كما يفعل البعض من زملاء المهنة، لم يصدف أن وقعت فى زلة لسان أو انحرفت بوصلة حوارها إلى المناطق الاستفزازية التى تخرج عن النص وتفسد السياق، كانت ودوداً مثقفة مهنية بامتياز وطنية إلى أبعد مدى، واعية بأحداث المنطقة العربية والدولية، محاربة فى تغطيتها الصحفية الميدانية، لم تخنها سرعة البديهة ولم تخذلها الذاكرة فى سرد الأحداث الساخنة بوقائعها القريبة والبعيدة، فكانت صوت المظلومين على قدر المسئولية التى أنيطت بها، غادرت وطنها قبل سبعة عشر عاماً، لكن لبنان لم يغادر قلبها وعقلها، حافظت على صورة لبنان ومصداقية الإعلام اللبنانى، ذات حضور مريح وملامح هادئة، تجمع بين جمال الروح والمضمون، كان من الطبيعى أن يصدم خبر رحيلها جمهورها ومحبيها وأصدقاءها، فحين تتابع إطلالتها على الشاشة تشعر بأنك تعرفها منذ زمن، ألفة غريبة تمس القلب والإحساس، وحين يكون الحدث هو «نجوى قاسم» فطبيعى أن يكون «حدث اليوم» (كما نعتها قناة العربية الحدث) وهو البرنامج الأكثر شهرة الذى ختمت به مشوار حياتها المهنية والأبدية.
«لكل حدث حديث» جملة نجوى قاسم الشهيرة التى أصبحت من الجمل المشهورة وتتردد على ألسنة الناس، فإذا كانت حياتها حافلة بالإنسانية والتألق والإبداع، فقد تركت إرثاً كبيراً وحضوراً عميقاً وذكرى عطرة راسخة فى الأذهان، ورصيداً لن ينفد من الألق والنجاح، وهو العزاء لأسرتها ومحبيها، كإنسانة اتفق الناس على محبتها، وأحزنهم فراقها. لم ألتقِها يوماً، لكننى كنت أشعر بأن صداقة قديمة تجمعنى بها وألفة لا أعرف مصدرها كلما طلّت على الشاشة لتقديم برنامجها المتميز، فكيف يكون شعور أصدقائها وزملائها فى أسرة الحدث والمقربين منها وكل من تعامل معها على مدار مشوارها المهنى والإنسانى؟
«الفقد» مؤلم وموجع، وموت الفجأة يكسر الفؤاد ويحزن النفس، لكنه القدر الذى لا اعتراض عليه، غير أن العلم يحذر من تلك الظاهرة المتكررة التى لم تستثنِ أحداً، كبيراً كان أو صغيراً، فقد نال موت الفجأة مبتغاه من الشباب أيضاً، إن موت الفجأة غالباً ما يكون مصدره القلب، والفؤاد هو مركز المشاعر والحنين، بانكساره تتدهور وظائفه الحيوية، وتتوالى مشاكله الصحية التى هى جزء أساسى من التشخيص الطبى، يقول عميد معهد القلب السابق الدكتور جمال شعبان: «إن الموت المفاجئ له أسباب، ولو جرى تشخيص الأسباب التى تؤدى إلى الموت المفاجئ لأمكن تفاديه، وأن مَن هم دون سن الثلاثين يتوفون بتضخم فى البُطين أو بسبب اختلال كهربائى، ومَن فوق الثلاثين يتوفون بسبب جلطة فى الشريان التاجى ينتهى بخلل كهربائى، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ منه ووصفه بأنه من علامات الساعة».
لقد حصد الموت المفاجئ أرواح العديد من المشاهير، من رؤساء دول، ولاعبى كرة قدم، وفنانين ومطربين ومذيعين، كثير منهم فاضت أرواحهم أمام الكاميرات وعلى الهواء مباشرة وأثناء عملهم. لم تكن هناك إحصائيات محددة حول أعداد من تعرضوا للموت المفاجئ، ولكن وضعت منظمة الصحة العالمية مرض «السكتة القلبية» فى المركز الأول لأسباب حدوث الوفيات حول العالم، بنسبة مرتفعة بين الأمراض وصلت إلى 14% من إجمالى الوفيات فى العالم طبقاً لأحدث تقرير، وتوقعت منظمة الصحة العالمية أن مرض السكتة القلبية سيستمر فى احتلاله المركز الأول فى الوفيات على مستوى العالم حتى حلول عام 2030.
منذ إعلان خبر رحيلها وقناة الحدث تتلقى التعازى من كل ضيف على الهواء واصفين إياها بعملاقة الإعلام العربى، ولم يكن مستغرباً أن تنعى الخارجية الأمريكية الإعلامية القديرة، وأن يتحدث عنها المسئولون اللبنانيون كرئيس الحكومة المستقيل سعد الحريرى ورئيس وزراء لبنان الأسبق فؤاد السنيورة بحزن واضح والإعلامية «مى شدياق» التى انهارت بالبكاء على الهواء وآخرين ممن عرفوا الفقيدة مهنياً وإنسانياً. قبل أن تغادر عالمنا طلبت من الله أن يحمى بلدها لبنان ويضع عينه عليها، رحلت وكان وداعها مشحوناً بالحزن والبكاء، رحم الله «نجوى قاسم» وأعان ذويها على لوعة الفراق وأسكنها الفردوس الأعلى.